فإن الساحل لا يحتاج في ورده إلى سبب، والقليب يحتاج في ورده إلى سبب، وكلا هذين المعنيين مجاز، فإن حقيقة الساحل والقليب غيرهما، والوجه هو الثاني؛ لأنه أدلُّ على بلاغة القائل ومدح المقول فيه.
أما بلاغة القائل: فالسلامة من هجنة التكرير بالمخالفة بين صدر البيت وعجزه، فإن عجزه يدل على القليل والكثير؛ لأن البارض هو أول النبت حين يبدو، فإذا كثر وتكاثف سمي جميمًا١، فكأنه قال: أخذنا منه تبرُّعًا ومسألة، وقليلًا وكثيرًا، وأما المدح المقول فيه فلتعداد حالاته الأربع في تبرعه وسؤاله وإكثاره وإقلاله، وما في معاناة هذه الأحوال من المشاق. فهذا ما يتعلق بالترجيح البلاغي بين الحقيقة والحقيقة, وبين المجاز والمجاز، وبين الحقيقة والمجاز.
وههنا ترجيح آخر لا يتعلق بما أشرنا إليه؛ إذ هو خارج عَمَّا تقتضيه المعاني الخطابية من جهة الفصاحة أو البلاغة، وذلك أن يرجَّح بين معنيين: أحدهما تام، والآخر مقدَّر، أو يكون أحدهما مناسبًا لمعنى تقدمه أو تأخَّر عنه، والآخر غير مناسب، أو بأن ينظر في الترجيح بينهما إلى شيء خارج عن اللفظ.
فمثال المعنيين المشار إليهما أن المعنى التام هو الذي يدل عليه لفظه ولا يتعداه، وأما المقدَّر فهو الذي لا يدل عليه لفظه, بل يستدل عليه بقرينة أخرى، وتلك القرينة قد تكون من توابعه وقد لا تكون. فمما جاء من ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم:"في سائمة الغنم زكاة" فهذا اللفظ يستخرج منه معنيان: أحدهما تام، والآخر مقدَّر، فالتام دلالته على وجوب الزكاة في السائمة لا غير، والمقدَّر دلالته على سقوط الزكاة عن المعلوفة، إلّا أنه ليس مفهومًا من نفس اللفظ، بل من قرينة أخرى هي كالتابعة له، وهي أنه لما خصت السائمة بالذكر دون المعلوفة عُلِمَ من مفهوم ذلك أن المعلوفة لا زكاة فيها، وللفقهاء في ذلك مجاذبات جدلية يطول الكلام فيها، وليس هذا موضعها، والذي يترجَّح عندي هو القول بفحوى المعنى المقدَّر، وهو الذي يسميه الفقهاء:"مفهوم الخطاب"، وله في الشعر أشباه ونظائر, فمما ورد من ذلك شعرًا قول