وأما علماء أصول الفقه فإنهم قالوا في حد الكناية: إنها اللفظ المحتمل، يريدون بذلك أنها اللفظ الذي يحتمل الدلالة على المعنى وعلى خلافه, وهذا فاسد أيضا, فإنه ليس كل لفظ يدل على المعنى وعلى خلافه بكناية.
دليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا لم تستح فافعل ما شئت" فإن هذا اللفظ يدل على المعنى وعلى خلافه، وبيان ذلك أنه يقول في أحد معنييه: إنك إذا لم يكن لك وازع يزعك عن الحياء فافعل ما شئت، وأما معناه الآخر فإنه يقول: إذا لم تفعل فعلا يستحى منه فافعل ما شئت، وهذا ليس من الكناية في شيء, فبطل إذا هذا الحد.
ومثال الفقيه في قوله: إن الكناية هي اللفظ المحتمل, مثال من أراد أن يحد الإنسان فأتى بحد الحيوان، فعبر بالأعم عن الأخص, فإنه يقال كل إنسان حيوان, وليس كل حيوان إنسانا, وكذلك يقال ههنا، فإن كل كناية لفظ محتمل، وليس كل لفظ محتمل كناية.
والذي عندي في ذلك أن الكناية إذا وردت تجاذبها جانبا حقيقة ومجاز، وجاز حملها على الجانبين معا، ألا ترى أن اللمس في قوله تعالى:{أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} يجوز حمله على الحقيقة والمجاز، وكل منهما يصح به المعنى، ولا يختل، ولهذا ذهب الشافعي رحمه الله إلى أن اللمس هو مصافحة الجسد الجسد، فأوجب الوضوء على الرجل إذا لمس المرأة، وذلك هو الحقيقة في اللمس، وذهب غيره إلى أن المراد باللمس هو الجماع، وذلك مجاز فيه، وهو الكناية، وكل موضع ترد فيه الكناية فإنه يتجاذبه جانبا حقيقة ومجاز، ويجوز حمله على كليهما معا، وأما التشبيه فليس كذلك، ولا غيره من أقسام المجاز؛ لأنه لا يجوز حمله إلا على جانب المجاز خاصة، ولو حمل على جانب الحقيقة لاستحال المعنى، ألا ترى أنا إذا قلنا:"زيد أسد"، لا يصح إلا على المجاز خاصة، وذلك أنا شبهنا زيدا بالأسد في شجاعته، ولو حملناه على جانب الحقيقة لاستحال المعنى؛ لأن