فإن قيل فما الدليل على اشتقاق الكناية من كنيت الشيء، إذا سترته ومن الكنية?
قلت في الجواب: أما اشتقاقها من كنيت الشيء إذا سترته, فإن المستور فيها هو المجاز؛ لأن الحقيقة تفهم أولا، ويتسارع إليها الفهم قبل المجاز؛ لأن دلالة اللفظ عليها وضعية، وأما المجاز فإنه يفهم بعد فهم الحقيقة، وإنما يفهم بالنظر والفكرة، ولهذا يحتاج إلى دليل؛ لأنه عدول عن ظاهر اللفظ فالحقيقة أظهر، والمجاز أخفى، وهو مستور بالحقيقة، ألا ترى إلى قوله تعالى:{أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} فإن الفهم يتسارع فيه إلى الحقيقة التي هي ملامسة الجسد الجسد، وأما المجاز الذي هو الجماع فإنه يفهم بالنظر والفكر، ويحتاج الذاهب إليه إلى دليل؛ لأنه عدول عن ظاهر اللفظ.
وأما اشتقاقها من الكنية فلأن محمدا في هذه الصورة المذكورة هو حقيقة هذا الرجل، أي: الاسم الموضوع بإزائه أولا، وأما أبو محمد فإنه طارئ عليه بعد عبد الله١؛ لأنه لم يكن له إلا بعد أن صار له ولد اسمه محمد، وكذلك الكناية، فإن الحقيقة لها هو الاسم الموضوع أولًا في أصل الوضع، وأما المجاز فإنه طارئ عليها بعد ذلك؛ لأنه فرع، والفرع إنما يكون بعد الأصل، وإنما يعمد إلى ذلك الفرع للمناسبة الجامعة بينه وبين الأصل على ما تقدم الكلام فيه، وهذا القدر كاف في الدلالة على اشتقاق الكناية من ذينك المعنيين المشار إليهما.
فإن قيل: إنك قد ذكرت أقسام المجاز في باب الاستعارة التي قدمت ذكرها في كتابك هذا، وحصرتها في أقسام ثلاثة وهي: التوسع في الكلام، والاستعارة، والتشبيه، ونراك قد ذكرت الكناية في المجاز أيضا، فهل هي قسم رابع لتلك
١ كان في الأصل قلب بين الاسمين محمد وعبد الله، فصححناهما هكذا ليتلاءم الكلام هنا مع سابقه عند قوله إنها مأخوذة من الكنية.