للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} ١ والأرض التي لم يطئوها كناية عن مناكح النساء، وذلك من حسن الكناية ونادره.

وكذلك ورد قوله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} ٢ فكنى بالماء عن العلم, وبالأودية عن القلوب وبالزبد عن الضلال، وهذه الآية قد ذكرها أبو حامد الغزالي رحمه الله في كتابه الموسوم بإحياء علوم الدين, وفي كتابه الموسوم بالجواهر, والأربعين, فأشار بها إلى أن في القرآن الكريم إشارات وإيماءات لا تنكشف إلا بعد الموت، وهذا يدل على أن الغزالي رحمه الله لم يعلم أن هذه الآية من باب الكنايات التي لفظها يجوز حمله على جانبي الحقيقة والمجاز, وقد رأيت جماعة من أئمة الفقه لا يحققون أمر الكناية، وإذا سئلوا عنها عبروا عنها بالمجاز, وليس الأمر كذلك، وبينهما وصف جامع, كهذه الآية وما جرى مجراها، فإنه يجوز حمل الماء على المطر النازل من السماء، وعلى العلم، وكذلك يجوز حمل الأودية على مهابط الأرض وعلى القلوب، وهكذا يجوز حمل الزبد على الغثاء الرابي الذي تقذفه السيول، وعلى الضلال، وليس في أقسام المجاز شيء يجوز حمله على الطرفين معا سوى الكناية.

وبلغني عن الفراء النحوي أنه ذكر في تفسيره آية، وزعم أنها كناية، وهي قوله تعالى: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} ٣ فقال: إن الجبال كناية عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم, وما جاء به من الآيات.

وهذه الآية من باب الاستعارة، لا من باب الكناية؛ لأن الكناية لا تكون إلا فيما جاز حمله على جانبي المجاز والحقيقة، والجبال ههنا لا يصح بها المعنى إلا إذا حملت على جانب المجاز خاصة؛ لأن مكر أولئك لم يكن لتزول منه جبال الأرض، فإن ذلك محال.


١ الأحزاب: ٢٧.
٢ الرعد: ١٧.
٣ إبراهيم: ٤٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>