للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قاضيًا فقد عرَّض نفسه لخطر عظيم كالذبح بغير سكين، وأمَّا المقدَّر فإنه يدل على أنه من جعل قاضيًا فقد أُمِرَ بمفارقة هواه، وهذا لا يدل عليه اللفظ بنفسه، بل يستدلَّ عليه بقرينة أخرى، ولكنها ليست من توابعه، ووجه ذلك أن لفظ الحديث عامّ يشمل القضاة على الإطلاق، ولا يخلو إما أن يراد به عذاب الآخرة أو عذاب الدنيا، ولا يجوز أن يكون المراد به عذاب الآخرة، لأنَّه ليس كل قاضٍ معذَّبًا في الآخرة, بل المعذَّب منهم قضاة السوء, فوضح بهذا أن المراد بالحديث عذاب الدنيا، وعلى هذا فلا يخلو إمَّا أن يكون العذاب صورةً أو معنًى، ولا يجوز أن يكون صورة؛ لأنَّا نرى الإنسان إذا جعل قاضيًا لا يذبح ولا يناله شيءٌ من ذلك، فبقي أن يكون المراد به عذابًا معنويًّا، وهو الذبح المجازي غير الحقيقي, وفحوى ذلك أن نفس الإنسان مركَّبة على حب هواها, فإذا جعل قاضيًا فقد أمر بترك ما جبل على حبه من الامتناع عن الرشوة، والحكم لصديقه على عدوِّه، ورفع الحجاب بينه وبين الناس، والجلوس للحكم في أوقات راحته، وغير ذلك من الأشياء المكروهة التي تشق على النفس وتجدد لها ألمًا مبرِّحًا, والذبح هو قطع الحلقوم، والألم الحاصل به، وهو كالذبح الحقيقي، بل أشد منه؛ لأنَّ ألم الذبح الحقيقي يكون لحظة واحدة ثم ينقضي ويزول، وألم قطع النفس عن هواها يدوم ولا ينقضي، وهو أشد العذاب. قال الله تعالى في عذاب أهل النار: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} ١ وقال في نعيم أهل الجنة: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} ٢, وكثيرًا ما رأينا وسمعنا من حمله حب الشيء على إتلاف نفسه في طلبه، وركوب الأهوال من أجله، فإذا امتنع عنه مع حبه إياه فقد ذبح نفسه, أي: قطعها عنه كما يقطع الذابح حلق الذبيحة، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "انتقلنا عن الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" فسمَّى جهاد الكفار "الجهاد الأصغر", وجهاد النفس الجهاد الأكبر.

فكما أن مجاهدة النفس عن هواها قتال بغير سيف، فكذلك قطعها عن هواها ذبح بغير سكين، وهذا موضع غامض، والترجيح فيه مختَص بالوجه الآخر؛ لاشتماله على المعنى المقصود وهو المراد من القضاة على الإطلاق.


١ سورة سبأ: آية ٥٤.
٢ سورة الزخرف: آية ٧١.

<<  <  ج: ص:  >  >>