للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما مثال المعنيين إذا كان أحدهما مناسبًا لمعنى تقدَّمه أو لمعنى تأخَّر عنه, والآخر غير مناسب:

فالأول: هو ما كان مناسبًا لمعنى تقدَّمه كقوله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} ١ فالدعاء ههنا يدل على معنيين: أحدهما: النهي أن يُدْعَى الرسول باسمه، فيقال: يا محمد، كما يدعو بعضهم بعضًا بأسمائهم، وإنما يقال له: يا رسول الله، أو يا نبي الله. الآخر: النهي أن يجعلوا حضورهم عنده إذا دعاهم لأمر من الأمور كحضور بعضهم عند بعض، بل يتأدَّبون معه، بأن لا يفارقوا مجلسه إلّا بإذنه، وهذا الوجه هو المراد، لمناسبة معنى الآية التي قبله، وهو قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} ٢.

أما الثاني: وهو ما كان مناسبًا لمعنى تأخَّر عنه كقوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، وَطُورِ سِينِينَ} ٣ فالتين والزيتون هما هذا الشجر المعروف، وهما اسما جبلين أيضًا، وتأويلهما بالجبلين أولى، للمناسبة بينهما وبين ما أتى بعدهما من ذكر الجبل الذي هو الطور.

وعلى هذا ورد قول الشاعر٤ في أبيات الحماسة:

ولو كنت مولى قيس عيلان لم تجد ... عليَّ لإنسانٍ من الناس درهما

ولكنني مولى قضاعة كلها ... فلست أبالي أن أدين وتغزما٥

فإذا نظرنا إلى البيت الأول وجدناه يحتمل مدحًا وذمًّا، أي: إنهم كانوا يغنونه بعطائهم أن يدين، أو أنه كان يخاف الدَّيْن حذر ألَّا يقوموا عنه بوفائه، لكن البيت الثاني حقق أن الأول ذمَّ وليس بمدح، فهذا المعنى لا يتحقق فهمه إلَّا بآخره


١ سورة النور: آية ٦٣.
٢ سورة النور: آية ٦٢.
٣ سورة التين: الآيتان ١، ٢.
٤ هو شقران مولى بني سلامان بن سعد هديم، وهو شاعر إسلامي من شعراء الدولتين أمية وبني العباس.
٥ البيتان في ديوان الحماسة ٢/ ٢٦٠، ومعنى البيتين: لو كان ولائي في قيس عيلان لم أقترض درهمًا من أحد لأنفقه في سبيل الخير مخافة ألّا يؤدوه عني، ولكن ولائي في قضاعة فلا أبالي أن أقترض ما أنفقه في وجوه البر؛ لأنهم يؤدونه عني، والمراد من هذا الكلام تفضيل قضاعة لجودهم وكرمهم على قيس عيلان لبخلهم وإمساكهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>