طريق المفهوم، وإنما هو شيء يحدس ويحزر، والخواطر تختلف في الإسراع والإبطاء عند عثورها عليه.
فإن قيل إن اللغز يعرف من طريق المفهوم, وهذان البيتان يعلم معناهما بالمفهوم.
قلت في الجواب: إن الذي يعلم بالمفهوم إنما هو التعريض، كقول القائل: إني لفقير، وإني لمحتاج, فإن هذا القول لا يدل على المسألة والطلب، لا حقيقة ولا مجازا، وإنما فهم منه أن صاحبه متعرض للطلب، وهذان البيتان ليسا كذلك، فإنهما لا يشتملان على ما يفهم منه شيء إلا بالحدس والحزر لا غير, وكذلك كل لغز من الألغاز.
وإذا ثبت هذا فاعلم أن هذا الباب الذي هو اللغز والأحجية والمعمى يتنوع أنواعا:
فمنه المصحف، ومنه المعكوس، ومنه ما ينقل إلى اللغات غير العربية، كقول القائل: اسمي إذا صحفته بالفارسية آخر، وهذا اسمه اسم تركي، وهو دنكر، بالدال المهملة والنون، وأخر بالفارسية ديكر بالدال المهملة والياء المعجمة بثنتين من تحت, وإذا صحفت هذه الكلمة صارت دنكر بالنون, فانقلبت الياء نونا بالتصحيف، وهذا غير مفهوم إلا لبعض الناس دون بعض.
وإنما وضع واستعمل؛ لأنه مما يشحذ القريحة، ويحد الخاطر؛ لأنه يشتمل على معان دقيقة يحتاج في استخراجها إلى توقد الذهن، والسلوك في معاريج خفية من الفكر, وقد استعمله العرب في أشعارهم قليلا, ثم جاء المحدثون فأكثروا منه. وربما أتي منه بما يكون حسنا وعليه مسحة من البلاغة، وذلك عندي بين بين، فلا أعده من الأحاجي، ولا أعده من فصيح الكلام.
فما جاء منه قول بعضهم:
قد سقيت آبالهم بالنار ... والنار قد تشفي من الأوار