البلد، فأرسل إليه ابن صالح واستعطفه ليعود إليه، فخافه ولم يعد، فأحضر ابن صالح رجلا من أهل حلب صديقا لابن منقذ وبينه وبينه لحمة مودة أكيدة, وأجلسه بين يديه، وأمره أن يكتب إليه كتابا عن نفسه يوثقه من جهة ابن صالح ليعود، فما وسعه إلا أن يكتب، وهو يعلم أن باطن الأمر في ذلك خلاف ظاهره، وأنه متى عاد ابن منقذ إلى حلب هلك، فأفكر وهو يكتب في إشارة عمياء لا تفهم، ليضعها فيه يحذر بها ابن منقذ، فأداه فكره أن كتب في آخر الكتاب عند إنهائه:"إن شاء الله تعالى" وشدد إن وكسرها، ثم سلم الكتاب إلى ابن صالح، فوقف عليه وأرسله إلى ابن منقذ، فلما صار في يده وعلم ما فيه قال: هذا كتاب صديقي وما يغشني، ولو أنه يعلم صفاء قلب ابن صالح لي لما كتب إلي ولا غرني، ثم عزم على العود، وكان عنده ولده، فأخذ الكتاب وكرر نظره فيه: ثم قال له: يا أبت مكانك، فإن صديقك قد حذرك وقال لا تعد، فقال: وكيف! قال: إنه قد كتب "إن شاء الله تعالى" في آخر الكتاب، وشدد إن وكسرها، وضبطها ضبطا صحيحا لا يصدر مثله عن سهو، ومعي ذلك أنه يقول:{إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} ١ وإن شككت في ذلك فأرسل إلى حلب.
وهذه من أعجب ما بلغني من حدة الذهن وفطانة الخاطر، ولولا أنه صاحب الحادثة المخوفة لما تفطن إلى مثل ذلك أبدا،؛ لأنه ضرب من علم الغيب، وإنما الخوف دله على استنباط ما استنبطه.
ووجد لبعض الأدباء لغز في حمام، فمنه ما أجاد فيه كقوله: "وقد أظلتها