للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

القياس يقتضي أن يكون "والنهار ليبصروا فيه" وإنما هو مراعى من جهة المعنى لا من جهة اللفظ، وهذا النظم المطبوع غير المتكلف؛ لأن معنى قوله: مبصرا لتبصروا فيه طرق التقلب في الحاجات.

واعلم أن في تقابل المعاني بابا عجيب الأمر يحتاج إلى فضل تأمل، وزيادة نظر، وهو يختص بالفواصل من الكلام المنثور، وبالأعجاز من الأبيات الشعرية.

فمما جاء من ذلك قوله تعالى في ذم المنافقين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} ١ وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} ٢.

ألا ترى كيف فصل الآية الأخرى بيعلمون, والآية التي قبلها بيشعرون، وإنما فعل ذلك؛ لأن أمر الديانة والوقوف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل, يحتاج إلى نظر واستدلال حتى يكتسب الناظر العلم والمعرفة بذلك، وأما النفاق وما فيه من البغي المؤدي إلى الفتنة والفساد في الأرض فأمر دنيوي مبني على العادات, معلوم عند الناس خصوصا عند العرب, وما كان فيهم من التجارب والتغاور، وفهو كالمحسوس عندهم، فلذلك قال فيه: {لا يَشْعُرُونَ} وأيضا فإنه لما ذكر السفه في الآية الأخيرة وهو جهل, كان ذكر العلم معه أحسن طباقا, فقال: {لا يَعْلَمُونَ} .

وآيات القرآن جميعها فصلت هكذا، كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} ٣ وكقوله تعالى:


١ سورة البقرة ١١, ١٢.
٢ سورة البقرة ١٣.
٣ سورة الحج ٦٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>