للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إذا كانت اللفظة في معنى أختها جاز استعمالها في المقابلة بينهما، والدليل على ذلك ما قدمناه من آيات القرآن الكريم, وكفى به دليلا, وهذه الرموز التي هي أسرار الكلام لا يتفطن لاستعمالها إلا أحد رجلين: إما فقيه في علم البيان قد مارسه، وإما مشقوق اللسان في الفصاحة قد خلق عارفا بلطائفها, مستغنيا عن مطالعة صحائفها، وهذا لا يكون إلا عربي الفطرة يقول ما يقوله طبعا، على أنه لا يسدد في جميع أقواله، ما لم تكن معرفته الفطرية ممزوجة بمعرفته العرفية.

الفرع الثاني في مقابلة الجملة بالجملة:

اعلم أنه إذا كانت الجملة من الكلام مستقبلة قوبلت بمستقبلة، وإن كانت ماضية قوبلت بماضية، وربما قوبلت الماضية بالمستقبلة, والمستقبلة بالماضية، إذا كانت إحداهما في معنى الأخرى.

فمن ذلك قوله تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} ١, فإن هذا تقابل من جهة المعنى، ولو كان التقابل من جهة اللفظ لقال: وإن اهتديت فإنما أهتدي لها.

وبيان تقابل هذا الكلام من جهة المعنى هو أن النفس كل ما عليها فهو بها، أعني أن كل ما هو وبال عليها وضار لها فهو بسببها ومنها؛ لأنها الأمارة بالسوء، وكل ما هو لها مما ينفعها, فبهداية ربها وتوفيقه إياها، وهذا حكم عام لكل مكلف، وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسند ذلك إلى نفسه؛ لأن الرسول إذا دخل تحته مع علو محله وسداد طريقته كان غيره أولى به.

ومن هذا الضرب قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} ٢, فإنه لم يراع التقابل في قوله "ليسكنوا فيه ومبصرا"؛ لأن


١ سورة سبأ ٥٠.
٢ سورة النمل ٨٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>