للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحقيقة لا غير، ألا ترى أن هذه اللفظة لمَّا وردت في القرآن الكريم وأريد بها قضاء الحاجة قرنت بألفاظ تدل على ذلك، كقوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} ١ فإن قوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} دليل على أنه أراد قضاء الحاجة دون المطمئن من الأرض، فالكلام في هذا وأمثاله إنما هو مع علم أصل الوضع حقيقةً والنقل عنه مجازًا، وأما الجهَّال فلا اعتبار بهم، ولا اعتداد بأقوالهم, والعجب عندي من الفقهاء الذين دوَّنوا ذلك على ما دوَّنوه، وذهبوا إلى ما ذهبوا إليه.

وأما الوجه الوصفيّ: فهو أنَّ المرجع في هذا وما يجري مجراه إلى أصل اللغة، التي هي وضع الأسماء على المسميات، ولم يوجد فيها أن الوجه المليح يسمَّى شمسًا، ولا أن الرجل الجواد يسمَّى بحرًا، وإنما أهل الخطابة والشعر توسَّعوا في الأساليب المعنوية فنقلوا الحقيقة إلى المجاز، ولم يكن ذلك من واضع اللغة في أصل الوضع، ولهذا اختص كل منهم بشيء اخترعه في التوسعات المجازية.

هذا امرؤ القيس قد اخترع شيئًا لم يكن قبله، فمن ذلك أنه أوَّل من عبَّر عن الفرس بقوله: "قيد الأوابد"٢ ولم يسمع ذلك لأحد من قبله.

وقد رُوي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال يوم حنين: "الآن حمي الوطيس" , وأراد بذلك شدة الحرب، فإن الوطيس في أصل الوضع التنور, فنقل إلى الحرب استعارة، ولم يسمع هذا اللفظ على هذا الوجه من غير النبي -صلى الله عليه وسلم، وواضع اللغة ما ذكر شيئًا من ذلك.

فعلمنا حينئذ أن من اللغة حقيقة بوضعه، ومجازًا بتوسعات أهل الخطابة والشعر. وفي زماننا هذا قد يخترعون أشياء من المجاز على حكم الاستعارة لم تكن من قبل، ولو كان هذا موقوفًا من جهة واضع اللغة لما اخترعه أحد من بعده، ولا زيد فيه، ولا نقص منه.


١ سورة المائدة: آية ٦.
٢ من بيته المشهور في معلقته:
وقد اغتدى والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل
والأوابد: جمع آبدة الوحش، قال أبو هلال: والحقيقة مانع الأوابد من الذهاب والإفلات، والاستعارة أبلغ؛ لأن القيد من أعلى مراتب تمنع عن التصرف، لأنك تشاهد ما في القيد من المنع، فلست تشك فيه.

<<  <  ج: ص:  >  >>