للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأمَّا الفرق بينه وبين الحقيقة, فهو أنَّ الحقيقة جارية على العموم في نظائر، ألا ترى أنَّا إذا قلنا: "فلان عالم" صدق على كل ذي علم، بخلاف {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} ١؛ لأنه لا يصح إلّا في بعض الجمادات دون بعض؛ إذ المراد أهل القرية؛ لأنهم ممن يصح السؤال لهم، ولا يجوز أن يقال: واسأل الحجر والتراب، وقد يحسن أن يقال: واسأل الربع والطلل.

واعلم أنَّ كلَّ مجاز فله حقيقة؛ لأنه لم يصح أن يطلق عليه اسم المجاز إلّا لنقله عن حقيقة موضوعة له، إذ المجاز هو اسم للموضع الذي يتنقل فيه من مكان إلى مكان، فجعل ذلك لنقل الألفاظ من الحقيقة إلى غيرها.

وإذا كان كل مجازٍ لا بُدَّ له من حقيقة نقل عنها إلى حالته المجازية, فكذلك ليس من ضرورة كل حقيقة أن يكون لها مجاز، فإن من الأسماء ما لا مجاز له، كأسماء الأعلام؛ لأنها وضعت للفرق بين الذوات لا للفرق بين الصفات.

وكذلك فاعلم أن المجاز أولى بالاستعمال من الحقيقة في باب الفصاحة والبلاغة٢؛ لأنه لو لم يكن كذلك لكانت الحقيقة التي هي الأصل أولى منه؛ حيث هو فرع عليها، وليس الأمر كذلك؛ لأنه قد ثبت وتحقَّقَ أن فائدة الكلام الخطابي هو إثبات الغرض المقصود في نفس السامع بالتخييل والتصوير حتى يكاد ينظر إليه عيانًا.

ألا ترى أن حقيقة قولنا: "زيد أسد" هي قولنا: "زيد شجاع", لكن فرق بين القولين في التصوير والتخييل، وإثبات الغرض المقصود في نفس السماع؛ لأن


١ سورة يوسف: آية ٨٢.
٢ هذا رأي من الآراء الشائعة، وليس على إطلاقه؛ لأنه إذا كانت البلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال، كانت البلاغة في المجاز كما تكون في الحقيقة، والتحقيق أنه لو لم يؤد المجاز غرضًا من الأغراض البلاغية لا تؤديه الحقيقة, لكانت الحقيقة أولى منه بالاستعمال، وقد ذكر المؤلف نفسه فيما يلي بعض الأغراض التي يفضل بها المجاز، وعاد إلى الرأي الذي قلناه.

<<  <  ج: ص:  >  >>