للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قولنا: "زيد شجاع" لا يتخيّل منه السامع سوى أنه رجل جريء مقدام، فإذا قلنا: "زيد أسد" يخيل عند ذلك صورة الأسد وهيئته، وما عنده من البطش والقوة، ودق الفرائس, وهذا لا نزاع فيه. وأعجب ما في العبارة المجازية أنها تنقل السامع عن خلقه الطبيعي في بعض الأحوال، حتى إنها ليسمح بها البخيل، ويشجع بها الجبان، ويحكم بها الطائش المتسرِّع، ويجد المخاطب بها عند سماعها نشوة كنشوة الخمر، حتى إذا قطع عنه ذلك الكلام أفاق وندم على ما كان منه من بذل مال, أو ترك عقوبة, أو إقدام على أمر مهول، وهذا هو فحوى السحر الحلال، المستغني عن إلقاء العصا والحبال.

واعلم أنه إذا ورد عليك كلام يجوز أن يُحْمَل معناه على طريق الحقيقة وعلى طريق المجاز باختلاف لفظه، فانظر: فإن كان لا مزية لمعناه في حمله على طريق المجاز فلا ينبغي أن يحمل إلّا على طريق الحقيقة؛ لأنها هي الأصل, والمجاز هو الفرع، ولا يعدل عن الأصل إلى الفرع إلّا لفائدة. مثال ذلك قول البحتري:

مهيبٌ كحد السيف لو ضربت به ... ذرا أجإٍ ظلت وأعلامها وُهْدُ١

ويروى أيضًا "لو ضربت به طلى أجإ" جمع طلية، وهي العنق، فهذا البيت لا يجوز حمله على المجاز؛ لأن الحقيقة أولى به، ألا ترى أن "الذرا" جمع "ذروة"، وهو أعلى الشيء، يقال: ذروة الجبل، أعلاه، والطلى: جمع طلية، وهي العنق، والعنق: أعلى الجسد، ولا فرق بينهما في صفة العلوِّ هنا, فلا يعدل إذًا إلى المجاز إذ لا مزية له على الحقيقة.

وهكذا كل ما يجيء من الكلام الجاري هذا المجرى، فإنه إن لم يكن في المجاز زيادة فائدة على الحقيقة لا يعدل إليه ...


١ ديوان البحتري ١/ ١١٠ وأجأ أحد جبلي طيء أجأ وسلمى، والوهد: الأرض المنخفصة والهوة في الأرض، والبيت من قصيدته التي يصف فيها الذئب حين لقيه، ورواية الديوان:
مهيبًا كنصل السيف لو ضربت به ... ذرا أجأ ضلت وأعلامها وهد
وقبله:
بني ناهل مهلًا فإن بن أختكم ... له عزمات هزل آرائها جد
من هجتموه لا تهيجوا سوى الردى ... وإن كان خرقًا ما يحل له عقد

<<  <  ج: ص:  >  >>