وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أنه ليس لقائل أن يقول: إن لأحد من المتأخرين معنى مبتدعا، فإن قول الشعر قديم منذ نطق باللغة العربية، وإنه لم يبق معنى من المعاني إلا وقد طرق مرارا.
وهذا القول وإن دخل في حيز الإمكان إلا أنه لا يلتفت إليه؛ لأن الشعر من الأمور المتناقلة، والذي نقلته الأخبار وتواردت عليه أن العرب كانت تنظم المقاطيع من الأبيات فيما يعن لها من الحاجات، ولم يزل الحال على هذه الصورة إلى عهد امرئ القيس، وهو قبل الإسلام بمائة سنة زائدا فناقصا، فقصد القصائد، وهو أول من قصد، ولو لم يكن له معنى اختص به سوى أنه أول من قصد القصائد لكان في ذلك كفاية، وأي فضيلة من هذه الفضيلة? ثم تتابع المقصدون، واختير من القصائد تلك السبع التي علقت على البيت، وانفتح للشعراء هذا الباب في التقصيد، وكثرت المعاني المقولة بسببه، ولم يزل الأمر ينمي ويزيد ويؤتي بالمعاني الغريبة، واستمر ذلك إلى عهد الدولة العباسية وما بعدها إلى الدولة الحمدانية، فعظم الشعر، وكثرت أساليبه، وتشعبت طرقه، وكان ختامه على الثلاثة المتأخرين، وهم: أبو تمام حبيب بن أوس، وأبو عبادة الوليد بن عبيد البحتري، وأبو الطيب المتنبي.
فإذا قيل: إن المعاني المبتدعة سبق إليها ولم يبق معنى مبتدع، عورض ذلك بما ذكرته.
والصحيح أن باب الابتداع للمعاني مفتوح إلى يوم القيامة، ومن الذي يحجر على الخواطر وهي قاذفة بما لا نهاية له? إلا أن من المعاني ما يتساوى الشعراء فيه، ولا يطلق عليه اسم الابتداع لأول قبل آخر؛ لأن الخواطر تأتي به من غير حاجة إلى اتباع الآخر قول الأول، كقولهم في الغزل:
عفت الديار وما عفت ... آثارهن من القلوب
وكقولهم إن الطيف يجود بما يبخل به صاحبه، وإن الواشي لو علم بمزار