للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

صدفت عنه ولم تصدف مواهبه ... عني وعاوده ظني فلم يخب

كالغيث إن جئته وفاك ريقه ... وإن ترحلت عنه لجَّ في الطلب

وهنا نرى أنه شبه الممدوح بالغيث، ووجه الشبه هو الإفاضة والإحسان في حال الإقبال، وفي حال الإعراض، وقد أنبأ بهذا الوجه ودلَّ عليه وصف المشبه بأن عطاياه لا تنقطع في حال الغيبة وحال الحضور، ووصف المشبه به كذلك وهو الغيث بأنه يوافيك بمائه الصافي إن طلبته، وإن ترحلت عنه اجتهد في إمدادك به، ولو لم يوصف الطرفان بهذين الوصفين؛ لتبادر إلى ذهن العامة أن المقصود مجرد تشبيه الممدوح بالغيث في كثرة العطاء.

هكذا نلحظ دقة وجه الشبه في استحضاره من خلال أجزاء الطرفين، ومن خلال وصف المشبه أو المشبه به، ومن أهم العوامل الموجبة لغرابة التشبيه أن يكون المشبه به نادر الحضور في الذهن؛ لكونه من الأمور الوهمية، كما في تشبيه السنان بأنياب الأغوال في بيت امرئ القيس، أو من المركبات الخيالية كتشبيه محمر الشقيق بأعلام ياقوت نُشرن على رماح من زبرجد، فالأمور الوهمية، والمركبات الخيالية لا تحقق لوجودها، فهي نادرة الحضور في الذهن.

وقد يكون المشبه به له وجود محقق إلا أنه لا يتكرر على الحس، ولا يخطر بالبال، إلا بعد تفكير طويل، كتشبيه الشمس بالمرآة في كف الأشل؛ إذ المرآة في يد الأشل من الأمور التي لا يقع عليها البصر إلا نادرًا، فربما قضى الإنسان عمره، ولم يتفق له أن يرى مرآة في يد الأشل، ومن ذلك تشبيه حال الذين حُملوا التوراة ثم لم يحملوها بحال الحمار يحمل كتب العلم في قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارً} (الجمعة: ٥)، فصورة الحمار يحمل أسفارًا من الصور التي لا تتكرَّر على الحس، وجه الشبه من المركبات العقلية التي يُتعذَّر استخراجها من الطرفين على غير الخاصة.

<<  <   >  >>