كذلك ينادى الرب -عز وجل- وبالطبع قريب كما أخبر في محكم آياته {فَإِنِّي قَرِيبٌ}(البقرة: ١٨٦) ينادى بلفظ البعيد يا، فيقال: يا رب وهو أقرب إلينا من حبل الوريد، وذلك لغرض بلاغي هو إحساسنا بالذنوب وشعورنا بالبعد عن مواطن الزلفى؛ فقد شبه نداء القريب بنداء البعيد فسرى التشبيه من الكليين إلى الجزئيات، واستعير "يا" من جزئيات المشبه به لجزئي من جزئيات المشبه على سبيل الاستعارة التبعية في الحروف، وكذا مناداة البعيد بلفظ القريب.
وكان يمكن أن نقتصر على هذه التقسيمات، لكن ثمة اعتبارات وتفريعات أخرى للاستعارة لاحظها البلاغيون، ولا حرج أن نعرض لشيء منها حتى نكون على ذكر بها. لقد ذكروا أن الاستعارة بصفة عامة باعتبار إمكان اجتماع الطرفين في شيء واحد، وعدم اجتماعهما تنقسم إلى قسمين:
استعارة وفاقية، واستعارة عِنَدِي. فالوفاقية: هي التي يمكن اجتماع طرفيها أي: المستعار له أعني: المشبه، كما قلنا، والمستعار منه أي: المشبه به في شيء واحد، لما بينهما من التوافق، خد مثلًا قول الله تعالى:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}(المائدة: ٥٢) فقد استعير المرض للنفاق، قوله تعالى:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى}(فصلت: ١٧) فاستعير العمى للكفر، مثله قوله تعالى:{وَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ}(الأنعام: ١٢٢) حيث استعيرت الحياة للهداية، وبين المستعار منه والمستعار له توافق؛ لأنه يمكن اجتماعهما في شيء واحد؛ فالمرض والنفاق يجتمعان في قلب إنسان، والعمى والكفر يمكن اجتماعهما في شخص كافر، والحياة والهداية يجتمعان في المؤمن، والجامع بين المرض والنفاق أن كلًّا منهما يفسد ما يصاحبه، فالمرض يفسد الأبدان، والنفاق يفسد العقائد، والجمع بين العمى والكفر أن كلًّا منهما يوقع