الأمر الرابع: أن المجاز المرسل يعين المتكلم على تحقيق ما يهدف إليه من أغراض كالتعظيم والتحقير والتهويل وغير ذلك. تقول مثلًا: رأيت العالم، تقصد رأيت طالب العلم الذي سيصير عالمًا، فأنت بذلك تعظمه وترفع من شأنه، وتقول أيضًا: انظر إلى الجيفة كيف يطغى ويتكبر؟ وأنت تريد مَن سيموت فيصبح جيفة منتنة باعتبار ما سيكون، فأنت بهذا تحقره وتضع من شأنه. من ذلك أيضًا قوله تعالى:{يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ}(البقرة: ١٩) فقد أفادت الآية شدة الهول والرعب والخوف الذي انتابهم، والذي من أجله حاولوا إخفاء أسماعهم بأقصى ما يستطيعون.
الأمر الخامس من مزايا المجاز المرسل: أن المجاز المرسل لا يخلو من خيال يعرض للسامع عندما تمر بذهنه المعاني الحقيقية لتلك الألفاظ، التي سرعان ما تتلاشى أمام المعاني المجازية المقصودة، هذا الخيال يحقق الجمال وإمتاع النفس التي ترى النبات والرزق بمختلف صنوفه يتدفق من السماء، وترى أسنِمة الآبالي يسعى بها السحاب، وهذا يأكل دمًا ويمضغه بأسنانه، وذاك يأكل نارًا فتكوى بها أحشاؤه.
هذه الصور تخطر في النفس فور سماع جملها، وهي وإن كانت تزول سريعًا أمام المعنى المراد بنصب القرينة إلا أنه بخطورها يتحقق إمتاع النفس وإثارة الذهن، فتقع المعاني في النفس موقعها، إلى غير ذلك من الأغراض البلاغية والأسرار واللطائف التي تكمن وراء أساليب المجاز المرسل.
وتعال معي لتتأمل ما جاء في قول الله تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}(البقرة: ١٩٤) وقوله: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} أي: جازوه على اعتدائه، ولكنه عبر عن المجازاة بالاعتداء؛ لأنه سببها، وقد سوغت هذه السببية أن تقيم الاعتداء مقامَ ما يترتب عليه وتنيبه عنها في الدلالة، ووراء هذا المجاز إبراز لقوة