الأول: أنه لم يرِد نسبة الفعل إلى كبير الأصنام وإنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على رمز خفي ومسلك تعريض، يبلغ به إلزام الحجة لهم والتسفيه لحلومهم كأنه قال: يا ضعفاء العقول، ويا جهال البرية، كيف تعبدون ما لا يجيب إن سئل، ولا ينطق إن كلم، وتجعلونه شريكًا لمن له الخلق والأمر، فوَضَعَ قوله:{اسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} موضع هذا.
الأمر الثاني: أن يقال: أن كبير الأصنام غضب لما عبد معه غيره من هذه الأصنام الصغار، فكسرها هذا الصنم الكبير، وغرض إبراهيم بذلك أن يعرض بهم في كونهم قد أشركوا في العبادة مَن هو دون الله، وأن من دونه مخلوق حقير من مخلوقاته، فوضع هذا الكلام لفاحش ما أتوا به وعظيم ما تلبسوا به من عبادة غير الله، وهذا التعريض لم يدل عليه اللفظ بل دل عليه السياق وقرائن الأحوال، وهذا ما قصد إليه الزمخشري حينما قال: هذا من معاريض الكلام، وقَصْدُ إبراهيم -عليه السلام- لم يكن أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم، وإنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضي يبلغ فيه غرضه من إلزامهم الحجة ومن تبكيتهم.
وفي هذا يقول الجمل صاحب التفسير المشهور: هذا على طريقة الكناية العرضية، فهذا يستلزم نفي فعل الصنم الكبير للتكسير وإثباته لنفسه، وهذا بناء على أن الفعل وهو الكسر دائر بين عاجز وهو ذلك الصنم وقادر وهو إبراهيم، إذ القاعدة أنه إذا دار فعل بين قادر عليه وعاجز عنه وأُثبت للعاجز بطريق التهكم به، لزم انحساره في الآخر، وحاصله أنه أشار إلى نفسه على الوجه الأبلغ مضمنًا فيه الاستهزاء.
ومن التعريض البديع قول الله تعالى فيما حكاه على لسان الحواريين:{يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}(المائدة: ١١٢) فكان غرضهم طلب المعجزة، فعرضوا