القرآن، حيث وقفوا من الرسالة وصاحبها موقف الجحود والنكران، واستثار القرآن حميَّتهم، وسفَّه أحلامهم، وتحداهم تحديًا سافرًا يثير حفيظة الجبان الرعديد مع ما كانوا عليه من أنفة وعزة. فسلكوا مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- مسالك شتى، ساوموه بالمال والمُلك ليكف عن دعوته، وقاطعوه ومن معه حتى يموتوا جوعًا. واتهموه بالسحر والجنون، وتآمروا على حبسه، أو قتله أو إخراجه. وقد دلهم على الطريق الوحيد لإسكاته وهو أن يجيئوه بكلام مثل الذي جاءهم به، "ألم يكن ذلك أقرب إليهم وأبقى عليهم لو كان أمره في يدهم؟ ولكنهم طرقوا الأبواب كلها إلا هذا الباب، وكان القتل والأسر والفقر والذل وكل أولئك أهون عليهم من ركوب هذا الطريق الوعر الذي دلهم عليه، فأي شيء يكون العجز إن لم يكن هذا هو العجز"؟
والقرآن الذي عجز العرب عن معارضته لم يخرج عن سُنن كلامهم. ألفاظًا وحروفًا، تركيبًا وأسلوبًا، ولكنه في اتساق حروفه، وطلاوة عبارته، وحلاوة أسلوبه، وجرس آياته، ومراعاة مقتضيات الحال في ألوان البيان، في الجمل الاسمية والفعلية، وفي النفي والإثبات، وفي الذكر والحذف، وفي التعريف والتنكير، وفي التقديم والتأخير، وفي الحقيقة والمجاز، وفي الإطناب والإيجاز. وفي العموم والخصوص، وفي الإطلاق والتقييد، وفي النص والفحوى، وهلم جرًّا، ولكن القرآن في هذا ونظائره بلغ الذروة التي تعجز أمامها القدرة اللغوية لدى البشر.
عن ابن عباس: "أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقرأ عليه القرآن، فكأنه رَقَّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال له: يا عم: إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالًَا ليعطوكه، فإنك أتيت محمدًا لتتعرض لما قِبَلِه. قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالًا، قال: فقل فيه قولًا يبلغ قومك أنك منكر له وكاره، قال: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني لا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقوله شيئًا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله،