للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَلَهُ مِن المُعْجِزاتِ الأرضِيَّةِ والسَّماويَّةِ ما لا يُحْصَى. وقوله: {وَيُزَكِّيهِمْ}: يعني أنه يُزَكِّي قلوبَهُم وَيُطَهِّرُها من أدناسِ الشِّركِ والفُجورِ والضَّلالِ؛ فإنَّ النفوسَ تزكو إذا طَهُرَتْ مِن ذلك كلِّه، ومَنْ زكَتْ نَفْسُه فقد أفلَحَ، كما قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} (١). وقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} (٢).

وقوله: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، يعني بالكتاب القرآنَ، والمرادُ: وَيعلِّمُهم تِلاوةَ ألفاظِهِ. ويعني بالحكمةِ فَهْمَ معاني القرآنِ والعَمَلَ بما فيه. فالحِكْمَةُ هي فهمُ القرآنِ والعملُ به (٣)، فلا يُكْتَفَى بتِلَاوةِ ألفاظِ الكتاب حتَّى يُعْلَمَ معناهُ ويُعْمَلَ بمقتضاهُ، فمَنْ جُمِعَ له (٤) ذلك كلُّه فقد أُوتِيَ الحِكْمَة. قالَ تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (٥).

قال الفُضَيلُ (٦): العلماءُ كثيرٌ، والحُكَماءُ قليلٌ. وقال: الحُكَماءُ وَرَثَةُ الأنبياءِ. فالحِكمةُ هي العِلمُ النافعُ الذي يتبَعُه العمَلُ الصَّالحُ. وهي (٧) نورٌ يُقْذَفُ في القَلْبِ يُفهَمُ بها معنى العلم المنَزَّلِ مِنَ السَّماءِ، ويحُضُّ على اتِّباعِه والعملِ به. ومَن قال: الحِكْمَةُ السُّنَّةُ، فقولُه حقٌّ؛ لأنَّ السُّنَّةَ تفسِّرُ القرآنَ وتُبيِّنُ (٨) معانيَهُ وتحُضُّ على اتِّباعِهِ والعَمَلِ به؛ فالحكيمُ هو العالم المستنبطُ لدقائِقِ العِلمِ المنتفَعِ بعلمِهِ بالعمل بِهِ. ولأبي العتاهية (٩):

وكَيْفَ تُحِبُّ أنْ تُدْعَى حَكِيمًا … وأَنْتَ لِكُلِّ ما تَهْوَى رَكُوبُ

وتَضْحَكُ دَائِبًا ظَهْرًا لِبَطْنٍ … وَتَذْكُرُ مَا عَمِلْتَ فَلَا تَتُوبُ


(١) سورة الشمس، الآية ٩. والمعنى: لقد فاز وأفلح من زكى نفسه بطاعة الله، وطهَّرها من دنس المعاصي والآثام.
(٢) سورة الأعلى، الآية ١٤. أي قد فاز من طهَّر نفسه بالإيمان، وأخلص عمله للرحمن.
(٣) في ب: "والعمل بما فيه".
(٤) لفظة: "له" لم ترد في (آ).
(٥) سورة البقرة، الآية ٢٦٩.
(٦) هو الفضيل بن عِيَاض بن مسعود التميمي اليربوعي، أبو علي، شيخ الحرم المكي، من أكابر العباد الصلحاء. كان ثقة في الحديث، أخذ عنه خلق منهم الإمام الشافعي. ولد في سمرقند سنة (١٠٥) هـ ونشأ بأيبوَرْد، ودخل الكوفة وهو كبير، وأصله منها، ثم سكن مكة وتوفي بها، من كلامه: "من عرف الناس استراح". مات سنة (١٨٧) هـ. وانظر ترجمته وكثيرًا من أقواله في "صفة الصفوة" ٢/ ٢٣٧ - ٢٤٧.
(٧) في ب، ط: "وهو "وهو تحريف لأن الضمير يعود إلى الحكمة.
(٨) في آ: "تفسير القرآن وتبيين".
(٩) ديوانه ٢٢ - ٢٣ ورواية البيت الثاني:
وتُصْبِحُ ضاحِكًا ظَهْرًا لِبَطْنٍ … وتَذْكُرُ ما اجْتَرَمْتَ فلا تذوبُ

<<  <   >  >>