للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وجَعَلَ اللهُ تعالى مِن هذه الأشهرِ أربعةَ أشهرٍ حُرُمًا، وقد فَسَّرَها النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديثِ، وذكَرَ أنَّهَا ثلاثةٌ متوالياتٌ؛ ذو القَعْدَةِ، وذو الحِجَّةِ، والمُحرمُ، وواحدٌ فردٌ، وهو شهرُ رَجَب. وهذا قد يَستدلُّ به مَن يقولُ: إنها من سنتين. وقد رُوي من حديث ابن عُمَرَ مرفوعًا: "أولُهُنَّ رَجَبٌ"، وفي إسناده موسى بن عُبيدة (١)، وفيه ضعفٌ شديدٌ من قِبَلِ حِفْظِهِ. وقد حُكي عن أهلِ المدينة أنهم جَعلوها من سنتينِ، وأنَّ أوَّلَها ذو القَعْدَةِ، ثم ذو الحِجَّةِ، ثم المُحرمُ، ثم رجَبٌ، فيكونُ رَجَبٌ آخرَها.

وعن بعض المدنيين أن أوَّلَها رَجَبٌ، ثم ذو القَعْدَةِ، ثم ذو الحِجَّةِ [ثم المُحَرَّمُ. وعن بعضِ أهلِ الكوفة أنها من سنةٍ واحدةٍ؛ أَوَّلُها المُحرمُ، ثم رَجَبٌ، ثم ذو القَعْدَةِ، ثم ذو الحِجَّةِ] (٢). واختُلِفَ في أيِّ هذه الأشهر الحُرمِ أفضلُ؛ فقيل: رجبٌ، قاله بعضُ الشافعية، وضعَّفَه النوَوي وغيرُه. وقيل: المُحَرمُ، قاله الحسنُ، ورجَّحَه النَّوَوِيُّ. وقيل: ذو الحِجَّةِ، رُوي عن سعيد بن جبير وغيرِه، وهو أظهرُ، والله أعلم.

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الزمانَ قد اسْتَدَارَ كهيئَتِه يومَ خَلَقَ الله السَّماواتِ والأرضَ، السنةُ اثنا عَشَرَ شهرًا" مُرادُه بذلك إبطالُ ما كانتِ الجاهليةُ تفعلُه من النَّسيء، كما قال تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} (٣). وقد اختُلِفَ في تفسيرِ النسيء، فقالت طائفة: كانوا يُبدلُون بعضَ الأشهرِ الحُرمِ بغيرِها مِنَ الأشهرِ، فيحرمُونَها بدلَها، ويُحلون ما أرادُوا تحليلَه مِن الأشهرِ الحُرم إذا احْتاجُوا إلى ذلك، ولكن لا يَزيدُون في عَددِ الأشهرِ الهلاليةِ شيئًا. ثم مِن أهلِ هَذه المقالةِ مَنْ قالَ: كانوا يُحلُّونَ المُحرمَ فيَسْتَحِلونَ القِتالَ فيه؛ لطولِ مدَّةِ التحريم عليهم بتوالي ثلاثة أشهرٍ مُحرمةٍ، ثم يُحرمونَ صَفَرَ مَكانَهُ، فكأنهُم يقترِضُونَه ثم يُوفونَه. ومنهم مَن قال: كانوا يُحلونَ


(١) في آ، ع: "موسى بن عبدة"، وهو تحريف. وهو موسى بن عُبيدة، ابن نَشيط، الرَّبَذي، أبو عبد العزيز المدني، ضعيف، وكان عابدًا، مات سنة ١٥٣ هـ. (التقريب).
(٢) ما بين قوسين ساقط في (آ).
(٣) سورة التوبة الآية ٣٧.

<<  <   >  >>