للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الشهور، كما أنَّ جُودَ رَبِّه يتضاعَفُ فيه أيضًا، فإِنَّ الله جَبَلَه على ما يُحبُّه مِن الأخلاق الكريمة، وكان على ذلك من قبل البعثة.

ذكر (١) ابنُ إسحاقَ عن وَهْب بن كَيْسان (٢)، عن عُبَيد بن عُمَير، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُجاوِرُ في حِرَاءَ من كُلِّ سنةٍ شهرًا، يُطْعِم مَنْ جاءهُ مِن المساكين، حتى إذا كان الشهرُ الذي أراد اللهُ به ما أراد مِن كرامته، من السَّنةِ التي بعثه الله فيها، وذلك الشهر شهرُ رمضانَ، خَرَجَ إلى حِرَاءَ كما كان يخرج لجوارِه مَعَهُ أهلُهُ، حتَّى إذا كانت اللَّيلةُ التي أكرمَهُ الله تعالى برسالته، ورَحِمَ العِبَادَ بها، جاءَهُ جبريلُ من (٣) الله عزَّ وجلَّ. ثم كان بعدَ الرسالة جودُه في رمضانَ أضعافَ ما كان قبلَ ذلك؛ فإنه كان يلتقي هو وجبريلُ عليه السَّلام، وهو أفضَلُ الملائكة وأكرمُهم، ويدارسُه الكتابَ الذي جاء به إليه، وهو أشرفُ الكتُبِ وأفضلُها، وهو يَحُثُّ على الإحسان ومكارم الأخلاق.

وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الكتابُ له خُلُقًا بحيثُ يرضَى لرضاه، ويسخَطُ لسخطِهِ، ويسارع إلى ما حثَّ عليه، ويمتنع ممَّا زجر عنه؛ فلهذا كان يتضاعَفُ جودُه وإفضالُه في هذا الشهر؛ لِقُرْب عهدِه بمخالطةِ جبريلَ عليه السلام، وكثرةِ مدارسته له هذا الكتابَ الكريمَ، الذي يحُثُّ على المكارم والجُود. ولا شكَّ أن المخالطة تؤثِّر وتورِثُ أخلاقًا من المخالط (٤). كان بعضُ الشعراء قد امتدح ملِكًا جَوادًا، فأعطاه جائزةً سنيةً، فخرج بها من عنده وفرَّقها كلَّها على الناس، وأنشد (٥):

لَمَسْتُ بِكَفِّي كَفَّه أبتَغِي الغنى … ولم أَدْرِ أن الجُودَ مِن كَفِّه يُعْدِي

فبلغ ذلك الملكَ فأضعفَ له الجائزة. وقد قال بعضُ الشعراء يمتدح بعضَ


(١) في ب، ط: "وذكر". وانظر السيرة النبوية لابن هشام ١/ ٢٣٥ - ٢٣٦.
(٢) هو وهب بن كيسان القرشي مولاهم، أبو نعيم المدني، المعلّم، ثقة، روى له الجماعة، توفي سنة ١٢٧ هـ (التقريب).
(٣) في سيرة ابن هشام: "بأمر الله تعالى".
(٤) في ش، ط: "المخالطة".
(٥) أحد بيتين مشهورين لابن الخياط، مدح بهما المهدي، وهما في الأغاني ١٨/ ١٤، وأمالي المرتضى ١/ ٥٢٢، وبعده:
فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى … أفَدْتُ وأعداني فأَتْلَفْتُ ما عندي

<<  <   >  >>