للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

في هذا الحديث دليلٌ على أنَّ من تكلَّف مِن العبادة ما يشقُّ عليه حتَّى تأذَّى بذلك جسَدُه؛ فإِنَّه غيرُ مأمورٍ بذلك، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - له: "مَنْ أمرَكَ أن تعذِّب نفسَك؟ "، وأعادَها عليه ثلاث مرارٍ. وهذا كما قال لمن رآه يمشي في الحجّ وقد أجهَدَ نفسَه: "إِنَّ الله لغنِيٌّ عن "تعذيبِ هذا نفسَه، فَمُروه فلْيَرْكَب" (١).

وقال لعبد الله بن عمرو بن العاص حيثُ كان يصُومُ النَّهار، ويقومُ الليلَ، ويختم القرآن في كُلِّ ليلةٍ ولا ينام مع أهله، فأمَرَه أن يصومَ ويفطِرَ، ويقرأَ القرآن في كُلِّ سَبْعٍ. وقال له:

"إِنَّ لنفسك عليك حقًّا، وإِنَّ لأهلك عليك حقًّا، فآتِ كُلَّ ذي حَقٍّ حقَّه" (٢).

ولمَّا بلَغه عن بعض أصحابه أنه قال: أنا أصومُ ولا أُفطِر، وقال آخر منهم: أنا أقوم ولا أنام، وقال آخر منهم: لا أتزوَّج النِّساء. فخطَبَ، وقال: "ما بالُ رجالٍ يقولون كذا وكذا، لكنِّي أصومُ وأفطِرُ، وأقومُ وأنام، وآكلُ اللَّحْمَ، وأتزوَّج النساء؛ فمن رَغِبَ عن سُنَّتي فليس مِنِّي" (٣). وسببُ هذا أنَّ الله تعالى خَلَقَ ابنَ آدم محتاجًا إِلى ما يقوم به بدنُه؛ من مأكلٍ ومَشْرَبٍ ومنكِحٍ وملبسٍ، وأباح له من ذلك كُلِّه ما هو طيِّبٌ حلالٌ، تقوَى (٤) به النفسُ ويصحُّ به الجسَدُ، ويتعاونان على طاعة الله عزَّ وجلَّ، وحرَّم من ذلك ما هو ضارٌّ خبيثٌ يوجبُ للنفس طغيانَها وعَمَاهَا وقسوتَها وغفلَتها وأشَرَها وبَطَرَها، فمن أطاعَ نفسَه في تناول ما تشتهيه مِمَّا حرَّمه الله عليه، فقد تعدَّى وطَغَى وظلَم نَفْسَه، ومَن مَنَعها حقَّها من المباح حتى تضرَّرت بذلك، فقد ظلمها ومنعها حقَّها؛ فإِنْ كان ذلك سببًا لضعفها وعجزها عن أداء شي من فرائض الله عليه، ومن حقوق الله عزَّ وجلَّ أو حقوق عبادِه، كان بذلك عاصِيًا، وإِن كان ذلك سببًا للعجز


(١) رواه البخاري رقم (٦٧٠١) في الإِيمان والنذور: باب النذور فيما لا يملك وفي معصية، ومسلم رقم (١٦٤٢) في النذور: باب من نذر أن يمشي إِلى الكعبة، وأبو داود رقم (٣٣٠١)، والنسائي ٧/ ٣٠.
(٢) جزء من حديث طويل له روايات متعددة، أخرجه البخاري وغيره من أصحاب السنن.
(٣) أخرجه البخاري رقم (٥٠٦٣) في النكاح: باب الترغيب في النكاح؛ ومسلم رقم (١٤٠١) في النكاح أيضًا: باب استحباب النكاح؛ والنسائي ٦/ ٦٠ في النكاح: باب النهي عن التبتل. وانظر "جامع الأصول" ١/ ٢٩٣.
(٤) في آ: "يقوِّي النفس".

<<  <   >  >>