للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كشَفْتَ بالموعظةِ (١) قِناعَ قلبي، فأتمَّ (٢) عبدُ الواحد موعظته فمات الرجلُ (٣).

صاحَ رجلٌ في حَلْقَةِ الشِّبْليِّ (٤) فماتَ، فاسْتَعدَى أهلُه على الشِّبْليِّ إلى الخليفة، فقال الشِّبليُّ: نفسٌ رنت (٥) فحنتْ، فدُعِيتْ فأجابَتْ، فما ذَنْبُ الشِّبليِّ؟

فَكَّرَ في أفعالِهِ ثمَّ صَاحْ … لا خَيْرَ في الحُبِّ بغيرِ افْتِضَاحْ

قد جئتُكُم مستأمِنًا فارْحَمُوا … لا تَقْتُلوني قد رَمَيْتُ السِّلَاحْ

إِنَّما يصلحُ التأديبُ بالسوط من صحيحِ البدَنِ، ثابت القلبِ، قويّ الذراعينِ، فيؤلمُ ضربُهُ فيردَعُ. فأمَّا مَن هو سَقيمُ البدَنِ لا قوةَ له، فماذا ينفعُ تأديبُهُ بالضَّرْبِ.

كان الحسنُ إذا خرج إلى النَّاس فكأنَّه رجلٌ عايَنَ الآخِرَةَ، ثم جاء يُخبِرُ عنها. وكانوا إذا خرجُوا من عنده خرجُوا وهم لا يَعدُّون الدُّنيا شيئًا. وكان سفيان الثوريّ (٦) يتعزَّى بمجالسِهِ عن الدُّنيا. وكان أحمد لا تُذكَرُ الدُّنيا في مجالسه (٧)، ولا تذكَرُ عندَه. قال بعضهم: لا تنفَعُ الموعِظَةُ إلَّا إذا خرجَتْ مِن القلب، فإنَّها تصِلُ إلى القلب، فأمَّا إذا خرجَتْ من اللسانِ، فإنَّها تدخُلُ من الأُذُنِ، ثم تخرجُ من الأخرى. قال بعضُ السَّلَفِ: إنَّ العالِمَ إذا لم يُرِدْ بموعظتِه وَجْهَ اللهِ تعالى زلَّتْ موعِظَتُهُ عن القلوبِ كما يَزِلُّ القَطْرُ عن الصَّفا (٨). كان يحيى بنُ معاذ (٩) يُنشِدُ في مجالسِه:

مواعِظُ الواعِظِ لن تُقْبَلا … حتَّى تَعِيها نَفْسُه (١٠) أَوَّلا


(١) في ع، ش: "كشفت الموعظة".
(٢) في آ: "فما تمَّ".
(٣) الخبر في سير أعلام النبلاء ٧/ ١٧٩. وعبد الواحد من العبّاد الزهاد، أبو عبيدة البصري. مات بعد سنة ١٥٠ هـ. وستأتي ترجمته.
(٤) اختلف في اسمه، فقيل: دُلَفِ بن جحْدر، وقيل: جعفر بن يونس. وقيل: جعفر بن دُلَف، كنيته أبو بكر، أصله من الشِّبْليَّة، وهي قرية من قرى أشروسنة بما وراء النهر، من شيوخ القوم، وله شعر. مات ببغداد سنة ٣٣٤ هـ. (سير أعلام النبلاء ١٥/ ٣٦٧ - ٣٦٩، ومعجم البلدان ٣/ ٣٢٢).
(٥) في ط: "رقَّت".
(٦) لفظ "الثوري" لم يرد في ع، ش. وهو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، سيد أهل زمانه في علوم الدين والتقوى. مات سنة ١٦١ هـ.
(٧) في ب، ع، ط: "مجلسه".
(٨) الصَّفا: العريض من الحجارة الأملَسُ، جمع صَفَاة. والقَطْرُ: المطر.
(٩) هو يحيى بن معاذ بن جعفر الرَّازي، أبو زكريا، من كبار المشايخ، أقام ببلخ، ومات في نيسابور. له كلام جيد، ومواعظ مشهورة، توفي سنة ٢٥٨ هـ. والأبيات في المنتظم ٥/ ١٦.
(١٠) في ع والمنتظم: "يعيها قلبه".

<<  <   >  >>