للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الْمَوْتَ} (١)، فدَلَّ ذلك على أنَّ أولياء الله لا يكرهون الموت بل يتمنونه، ثم أخبر أنهم {وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} (٢)، فدَلَّ على أنَّه إنَّما يكْرَه الموتَ مَن له ذنوبٌ يخاف القدومَ عليها، كما قال بعضُ السلف: ما يكره الموتَ إلا مُريب. وفي حديث عمَّار بن ياسر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أسألُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إلى وَجْهِكَ وَشَوقًا إلى لقائِكَ، في غير ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، ولا فِتْنَةٍ مُضِلَّة" (٣).

فالشوق إِلى لقاء الله تعالى إنما يكون بمحبة الموت، وذلك لا يقَعُ غالبًا إلَّا عند خوف ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ في الدنيا، أو فتنةٍ مُضِلَّةٍ في الدِّين. فأمَّا إذا خلا عن ذلك، كان شوقًا إلى لقاء الله عزَّ وجلَّ، وهو المسؤول في هذا الحديث. وفي "المسند" (٤) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لا يتمنين الموتَ إِلَّا مَن وَثِقَ بعمله". فالمطيع لله مستأنسٌ بربِّه، فهو يحبُّ لقاءَ الله، واللهُ يحبُّ لقاءه. والعاصِي مستوحش، بينَه وبينَ مولاه وحشةُ الذُّنوب، فهو يكره لقاءَ ربِّه ولابدَّ له منه. قال ذوالنون: كُلُّ مطيعٍ مستأنِسٌ، وكُلُّ عاصٍ مستوحِشٌ. وفي هذا يقول بعضُهم:

أمستوحشٌ أَنْت مما جنيتَ (٥) فأحسِنْ إِذا شئْت واسْتأنِسِ

قال أبو بكر الصديق لعمر رضي الله عنهما في وصيته له عند الموتِ (٦): إِن حفِظْت وَصِيَّتي لم يكن غائبٌ أحبَّ إِليك من الموت ولا بُدَّ لك منه، وإن ضيعتَها لم يكن غائبٌ أكرَه إليك من الموت ولن تُعجزَه. قال أبو حازم: كُلُّ عملٍ تكره الموتَ من أجله فاتركْه، ثم لا يضرُّك متى مُتَّ. العاصي يفِرُّ من الموت لكراهية لقاءِ الله، وأين يفِرُّ مَن هو في قبضةِ مَن يطلبُه.

أينَ المَفَرُّ والإِلهُ الطَّالِبُ … والمجرِمُ المغلُوبُ ليسَ الغالِبُ


(١) سورة الجمعة الآية ٦.
(٢) سورة الجمعة الآية ٧.
(٣) جزء من حديث طويل رواه النسائي ٣/ ٥٤، ٥٥ في السهو: باب نوع آخر من الدعاء، وإسناده جيد. ورواه أحمد في "مسنده" ٤/ ٢٦٤، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" ١/ ٥٢٤ وصححه، ووافقه الذهبي.
(٤) مسند أحمد ٢/ ٣٥٠ ورواه المؤلف هنا مختصرًا. وذكره الزبيدي في "الإتحاف" وقال: "رواه ابن عساكر بلفظ: لا يتمنين أحدكم الموت حتى يثق بعمله".
(٥) في ب: "جنيته".
(٦) في آ، ش، ع: "عند موته".

<<  <   >  >>