للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وإنَّ هذا المال خَضِرةً حُلوةٌ، مَنْ أَخَذَهُ بحقِّه، ووضَعَهُ في حقِّه، فَنِعْمَ المعونةُ هو، وإن أخذَهُ بغير حقِّه كان كالذي يأكُلُ ولا يشبع" (١).

كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخوَّف على أمَّته من فتح الدنيا عليهم، فيخاف عليهم الافتتان بها. ففي "الصحيحين" (٢) عن عمرو بن عوفٍ أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للأنصار لما جاءه مالٌ (٣) من البحرين: "أَبْشِرُوا وأَمِّلُوا ما يَسُرُّكُمْ، فوالله ما الْفَقْرَ أَخْشَى عليكم، ولكن أخشَى عليكم أن تُبْسَطَ الدُّنيا عليكم كما بُسِطَتْ على من كان قبلَكم؛ فَتَنَافَسُوها كما تَنَافَسُوها؛ فتهلككُم كما أهلكَتْهم". وكان آخر خطبةٍ خطبَها على المنبر حذَّر فيها من زهرة الدنيا، ففي "الصحيحين" (٤) عن عقبة بن عامر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صَعِدَ المنبر، فقال: "إني لستُ أخشَى عليكم أن تُشركوا بعدي، ولكني أخشَى عليكم الدنيا أن تنافَسُوا


(١) علَّق ابن الأثير في "جامع الأصول" ٤/ ٥٠٣ على الحديث بقوله: "وفي هذا الحديث مثلان؛ أحدهما: للمفرط في جمع الدنيا، والآخر: للمقتصد في أخذها والانتفاع بها. فأما قوله: وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حَبَطًا أو يُلِمّ، فإنَّه مثلٌ للمفرط الذي يأخذُ الدنيا بغير حقها، وذلك أنَّ الربيع ينبت أحرار البقول، فتستكثر الماشية منه لاستطابتها إياه، حتى تنتفخ بطونها عند مجاوزتها حدَّ الاحتمال، فتنشقّ أمعاؤها من ذلك فتهلك، أو تقارب الهلاك، وكذلك الذي يجمع الدنيا من غير حقِّها ويمنعها من حقها، قد تعرض للهلاك في الآخرة، لا بل في الدنيا. وأما مثل المقتصد، فقوله: إلا آكلة الخضِر، وذلك أن الخَضِرَ ليس من أحرار البُقول وجيِّدها التي يُنْبِتُها الربيع بتوالي أمطاره فتحسُن وتنعُم، ولكنه من التي ترعاها المواشي بعد هيج البقول ويُبْسها، حيث لا تجد سواها، وتسميها العرب: الجَنْبَة، فلا ترى الماشيةَ تُكثر من أكلها ولا تستمرثها، فضرب آكلة الخضر من المواشي مثلًا لمن يقتصِر في أخذ الدنيا وجمعها، ولا يحمله الحرص على أخذها بغير حقها، فهو ينجو من وبالها، كما نجت آكلة الخضِر. ألا تراه قال: أكلتْ، حتى إذا امتدَّتْ خاصرتاها استقبلت عين الشمس، فثلطت وبالت؛ أراد أنها إذا شبعت منها بَرَكَتْ مستقبلة عين الشمس، تستمرئ بذلك ما أكلت، وتجترُّ وتثلِط، فإذا ثلطت فقد زال عنها الحَبَط، وإنما تحبط الماشية لأنها تمتلئ بطونها ولا تثلط ولا تبول، فيعرض لها المرض فتهلك". وسيعود المؤلف إلى الحديث وشرحه أيضًا.
(٢) أخرجه البخاري رقم (٦٤٢٥) في الرقاق: باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، وفي الجهاد: باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب، وفي المغازي: باب شهود الملائكة بدرًا. ومسلم رقم (٢٩٦١) في الرقاق.
(٣) في آ، شر، ع: "مال البحرين".
(٤) أخرجه البخاري رقم (٦٥٩٠) و (٦٤٢٦) في الرقاق: باب في الحوض، وباب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، وفي الجنائز: باب الصلاة على الشهيد، وفي الأنبياء: باب علامات النبوة في الإِسلام، وفي المغازي: باب غزوة أحد، وباب أُحُد، يحبنا ونحبه. ورواه مسلم رقم (٢٢٩٦) في الفضائل: باب إثبات حوض نبينا - صلى الله عليه وسلم - وصفاته.

<<  <   >  >>