للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الطاعة إنما يحمِلُ عليه الجهلُ، فلذلك كان كُلُّ مَنْ عَصَى الله جاهلًا، وكُل مَنْ أطاعَه عالمًا. وكَفَى بخشية الله علمًا، وبالاغترار به جَهْلًا. وأمَّا التوبة من قريبٍ فالجمهور على أن المراد بها التوبةُ قَبْلَ الموت؛ فالعمر كله قريبٌ، والدنيا كلُّها قريبٌ. فمن تاب قبل الموت فقد تاب من قريبٍ، ومن مات ولم يتُبْ فقد بَعُدَ كُلِّ البُعد، كما قيل:

[يقولُون لا تَبْعَدْ وَهُم يَدْفِنُونني … وأينَ مكانُ البُعْد إلَّا مكانِيا

وقال آخر:

مِن قَبْل أن تلقِي وليـ … ـــس النأْيُ إلَّا نأيُ دارِك

وكما قيل] (١):

فهم جِيرةُ الأحياءِ أمَّا مَزَارُهُم (٢) … فَدَانٍ وأمَّا المُلْتَقَى فَبَعيدُ

فالحيُّ قريبٌ، والميتُ بعيدٌ من الدنيا على قُربه منها؛ فإنَّ جسمه في الأرض يَبْلَى، ورُوحه عند الله تُنَعَّم أو تُعَذَّب، ولقاؤه لا يرجى في الدنيا، كما قيل:

مقيمٌ إلى أن يبعَثَ الله خَلْقَهُ … لقاؤكَ لا يُرجَى وأنتَ قَريبُ

تزيدُ بِلىً في كُلِّ يوم وليلةٍ … وتُنْسَى كما تُبْلَى وأنْتَ حَبيبُ

وهذان البيتان سمِعهما داودُ الطائيُّ رحمه الله من امرأةٍ في مقبرةٍ تَنْدُبُ بهما ميّتًا لها، فوقعتا من قلبه موقعًا، فاستيقظ بهما وَرَجَعَ زاهدًا في الدنيا، راغبًا في الآخرة، فانقطَعَ إلى العبادة إلى أن مات رحمه الله. فمن تابَ قبل أن يُغَرْغِر، فقد تاب من قريبٍ، فتقبَلُ توبَتُهُ. ورُوي عن ابن عباس في قوله تعالى {يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} (٣)، قال: قبل المرض والموت، وهذا إشارة إلى أن أفضل أوقاتِ التوبةِ، وهو أن يبادِرَ الإِنسانُ بالتوبة في صحته قبلَ نُزول المرض به حتَّى يتمكنَ حينئذٍ من العمل الصالح، ولذلك قَرَنَ الله تعالى التوبةَ بالعمل الصالح في مواضِعَ كثيرةٍ من القرآن. وأيضًا فالتوبةُ في الصحة ورجاءِ الحياة تُشبه الصَّدَقَةَ بالمال في الصِّحة ورجاءِ البقاء،


(١) ما بين قوسين زيادة من نسخة آ، واستدرك البيت الأول "يقولون لا تبعد .. " في هامش نسخة ع.
(٢) في ط: "قرارهم"، وهو تحريف.
(٣) سورة النساء الآية ١٧.

<<  <   >  >>