وهما غيب وشهادة، ثم إن الغيب والشهادة قد يلزمان موضعهما من الخفاء والظهور، وقد ينتقلان فيتعاقبان على موضع واحد كالسماء وزينتها النجومية، هي غيب في النهار، وشهادة في الليل، وقد يتعدد موضعهما كزيد وعمرو غاب أحدهما عنك وشاهدت الآخر، فهما غيب وشهادة، وتفصيل ذلك يكثر/ [٧٩ أ/م] وليس هو المقصود، وإنما المقصود أن اللذة ضربان: حسية كالأكل والشرب والنكاح، وعقلية كإدراك الحقائق العقلية، والمعاني الروحانية، والأولى شهادة والثانية غيب.
وإذا ثبت لنا أن عالم الغيب أفضل من عالم الشهادة ثبت أن اللذة العقلية أفضل من الحسية، ومن فوائد العلم بذلك الجد في طلبها، وسهولة الموت على النفس في العبور إليها.
فإن قيل: قد جعلتم الشياطين من عالم الغيب، وزعمتم أنه أفضل من عالم الشهادة؛ فيلزم أن الشياطين أفضل من الآدميين.
قلنا: الشياطين لهم جهتان:
إحداهما: كونهم من عالم الغيب.
والثانية: كونهم شياطين أشرارا.
فمن الجهة الأولى لا يمتنع أنهم أفضل من بني آدم، ومن الجهة الثانية الكلاب/ [١٦٨/ ل] أفضل منهم كما قيل في بني آدم من جهة كونهم أناسا عقلاء هم أفضل من البهائم، ومن غلب هواه منهم على عقله كانت البهيمة أفضل منه.
{وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}(٧٥)[الأنعام: ٧٥] هذا يدل على أن قوله: {وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اِجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ اُدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاِعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(٢٦٠)[البقرة: ٢٦٠] أراد به طمأنينة العيان كما ذكر في موضعه؛ لأن الله-عز وجل-أخبر أنه أراه الملكوت ليوقن وإحياء الموتى من قبيل الملكوت الغيبي.
{فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ}(٧٦)[الأنعام: ٧٦] الآيات، حاصلها أنه استدل بحركات الكواكب وأفولها على عدم إلهيتها وربوبيتها، وذلك بناء على مقدمات:
الأولى: إثبات الأعراض، وهي ما لا يقوم بنفسه؛ فيفتقر إلى موضوع يقوم به،