المعقول أصلا محكما يرد إليه السمعي الذي هو كالفرع المجمل، ولذلك تراهم إذ لاح لهم في حكم ما يعتقدونه برهانا، عولوا عليه واشتغلوا بتأويل السمعيات المخالفة له توفيقا بين الأدلة. وتقرير احتجاجهم من هذه الآية أن الله-عز وجل-أخبر عن بني إسرائيل أنهم مكثوا برهة متفقين قبل أن يأتيهم العلم السمعي؛ فلما جاءهم اختلفوا، وإنما كانوا قبل ورود السمع يعتمدون على سياسة العقل والعرف ونحوه، والاتفاق محمود والاختلاف مذموم، فدل على أن تصرف العقل أوثق وأوفق من ظواهر السمع لما في تصرف العقل من الحزم وعدم قبول التأويل، وفي السمعيات من الإجمال والاشتراك والترددات المانعة من الحزم القابلة للتأويل، وهذه مسألة أصولية وهي أن النقليات هل تفيد اليقين أم لا؟ فيه أقوال:
ثالثها: أنها تفيد بانضمام قرائن إليها لا بمجردها، [ووجه النفي مطلقا أن النقليات يتوقف إفادتها اليقين على أمور غير متيقنة لعدم المجاز والإضمار والنقل والاشتراك والتخصيص ونحوها، وكل ما توقف على غير المتيقن فهو غير متيقن.
ثم تفرع على هذا مسألة أخرى وهي إذا تعارض السمع وما أدركه العقل في أحكام العقائد فأيهما يقدم؟ فالمحدثون قدموا السمع لاحتمال غلط العقل في الأمور الإلهية ونحوها، والشرع أوثق منه في ذلك وغيره، والمتكلمون كالأشاعرة والمعتزلة والفلاسفة قدموا مدرك العقل؛ لأن السمع إنما ثبت بدليل العقل فلو قدم السمع عليه كان ذلك قدحا في الأصل بالفرع ثم في الفرع تبعا لأصله، وأنه باطل] والجواب عن شبهتهم من الآية أن العلم أعم من السمعي وغيره، والعام لا يدل على الخاص، فلا نسلم أن المراد: فما اختلفوا حتى جاءهم العلم السمعي، بل هو أعم من ذلك وحينئذ يلزمكم في العلم العقلي ما ألزمتمونا في السمعي، سلمناه، لكن قد سماه علما، وهو في العرف والإدراك الجازم الذي لا يحتمل النقيض، ومثل هذا كيف يختلف فيه أو يكون/ [٢٢٧/ل] سببا للاختلاف؟ ! سلمناه لكن ما ذكرتموه إنما يلزم أن لو كان اختلافهم بعد مجيء العلم من جهة العلم لكن جهة اختلافهم أعم من ذلك، ثم قد عينت بجهة البغي بينهم لقوله-عز وجل-/ [١٠٥ ب/م]: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اِخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ}(١٩)[آل عمران: ١٩] والاختلاف بغيا لا يوجب العلم غيا.