وكأن هؤلاء قاسوا قياسا فاسدا؛ فرأوا أن الرسول ملك من ملوك الأرض إذا ورد بلدا برسالته يحتجب حشمه فلا يرى آكلا ولا في سوق؛ فقالوا: رسول الله أولى بذلك؛ لأن الله-عز وجل-أعظم الملوك. وهذا شبيه بقول القائلين: إن الله-عز وجل-أكرم من أن يضرب المثل بالذباب والعنكبوت؛ فكان هذا القياس الفاسد فتنة للفريقين، ضربوا بسببه الأمثال فضلوا {اُنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً}(٩)[الفرقان: ٩] أي لا يستطيعون طريقا إلى الهدى؛ لأن طريق الهدى اتباع الرسول وقد سد عليهم بما خلق في نفوسهم من القياس الفاسد المانع من اتباعه.
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ}(١٧)[الفرقان: ١٧] إلى قوله: {قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً}(١٨) / [١٤٧ ب/م][الفرقان: ١٨] انظر إلى هؤلاء المتخذين آلهة، كيف أنهم لما فهموا سر القدر عدلوا عن القسمين؛ فلم يقولوا: نحن أضللناهم، ولا قالوا:
هم ضلوا السبيل، بل حكوا عين ما وقع، وهو أن الله-عز وجل-استدرجهم بالنعم والتمتع، وما يتبع ذلك من خلق الدواعي والصوارف حتى شغلهم عن الذكر فنسوه، وهذا هو مستند الجبرية؛ فإن استدراجهم المذكور إن كان موجبا لنسيان الذكر حصل المقصود وإن لم يكن موجبا، فلا أقل من أن يضاف إلى الله-عز وجل-بقدر ما وجد منه من الاستدراج والشغل عنه.
اللهم إلا أن يقول القدري: إنه إنما متعهم تفضلا عليهم لا ليشغلهم عن الذكر، وإنما هم الذين اشتغلوا بنعمته عن ذكره، فلذلك لزمتهم الحجة، بدليل:{فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ}(٤٤)[الأنعام: ٤٤].