{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ}(١٨٢)[الأعراف: ١٨٢] فلعمري لقد قال مقالا، غير أن نرجع إلى أصل المسألة فنقول: نسيانهم للذكر إما أن يكون مراد الوجود منهم أو مراد العدم، أو لا مراد الوجود ولا مراد العدم، فإن كان مراد الوجود حصل المقصود، لما تقرر من أن القدرة لا تتعلق إلا بما تتعلق به الإرادة، فإن كان مرادا منهم كان مقدورا عليهم، والمقدور واجب الوقوع.
وإن كان مراد العدم لزم أن يكون وجوده منهم مراغما للإرادة/ [٣١٢/ل] والعلم والقدرة الأزلية؛ لاستحالة تعلق الجميع إلا بمتعلق واحد؛ لئلا تتنافى الصفات القديمة أو الذات أو الأحوال في متعلقاتها، وهو محال، وحينئذ يلزم غلبة الحادث للقديم، وهو باطل.
وإن كان لا مراد الوجود، ولا مراد العدم لزم خلو بعض الموجودات عن تعلق الإرادة والعلم والقدرة به؛ لاستحالة تعلق بعضها بما لا يتعلق به البعض، وإنه محال.
{فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً}(١٩)[الفرقان: ١٩] يحتج به القدرية، ووجهه: أن الله- عز وجل-قسم في سؤال الآلهة تقسيما حاضرا؛ فقال: أأنتم أضللتم هؤلاء أم هم ضلوا السبيل؟ قالوا: ما أضللناهم. فتعين أنه هم ضلوا، فلذلك أكذبهم في دعواهم أن هؤلاء المعبودين من دون الله أضلونا، وحينئذ يلزم نسبة ضلالهم إلى أنفسهم.
والجواب: أنا لا نسلم أن المراد بقوله-عز وجل-: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ}(١٧)[الفرقان:
١٧] الحصر، بل المراد تكذيب الكفار في أن معبوديهم أضلوهم، وهو حاصل بتنصل المعبودين عن ذلك، والقسمة تقتضي أن الذي أضلهم إما معبودوهم أو أنفسهم، أو الله- عز وجل-مستقلا بإضلالهم كما/ [١٤٨ أ/م] تقول الجبرية، أو مشاركا فيه، كما تقول الكسبية؛ وحينئذ لا يتعين ما ذكرتموه من أنهم هم ضلوا بأنفسهم.
فإن قيل: فعلى كل حال لم تقم لهم حجة، ولا أقيم لهم عذر، ولو صح ما ذكرتموه لاحتجوا به والتمسوا العذر ولأغنى عنهم شيئا.
وجوابه: أن هذا لا يلزم؛ لأن الكسبي يقول: قامت الحجة عليهم بكسبهم، والجبري يقول: قامت الحجة عليهم بموجب علمه أن لو فوض إليهم خلق أفعالهم لكانوا كفارا عصاة.