والمعتزلة قالوا: لا فائدة لذلك؛ إذ حاصله افعل لا تفعل، وهو تهافت، ثم أجابوا عن القصة بوجوه:
أحدها: لا نسلم أنه رأى أنه مأمور بذبحه وإنما ظن أن سيرى بدليل قوله: إني أرى وهو مستقبل لا ماض، ولهذا قال ابنه: افعل ما تؤمر بصيغة المستقبل، أي إن أمرت بذبحي كما خطر لك أنه سيكون، فافعل.
الثاني: سلمنا أنه أمر بشيء، لكنه لم يؤمر بنفس الذبح بل بمقدماته كأخذ المدية والإضجاع والربط ونحوه، وقد فعل ذلك بدليل:{قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}(١٠٥)[الصافات: ١٠٥] ولو كان مأمورا بنفس الذبح لما كان صدقها.
الثالث: سلمنا أنه أمر بذبحه؛ لكن لا نسلم أنه نسخ قبل فعله، بل فعله، وكان كلما قطع جزءا من عنقه التحم، فلم يفرغ من قطعها حتى التحمت جزءا فجزءا، واعلم أن من تأمل القصة/ [٣٥٢ ل] وسياقها علم بطلان هذه الوجوه بالضرورة واستغنى عن تكلف الجواب، لكن لا بد من جوابها على العادة.
والجواب عن الأول ما سبق من استعمال المضارع بمعنى الماضي، والمضارع أريد به الحال لا المستقبل؛ لأنه لما رأى رؤياه في الليل أصبح وهو يتذكرها ويتخيلها في الحال، وهو حال كل ذي رؤيا يذكرها، فلذلك عبر عن الماضي بلفظ الحال، وكذا قول ابنه {يا أَبَتِ اِفْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصّابِرِينَ}(١٠٢)[الصافات: ١٠٢] أي ما أنت مأمور به في الحال؛ لأنه مأمور في الحال بما كان أمر به في الماضي استصحابا لحاله، إذ لم ينسخ عنه بعد، وعن الثاني بأنه خلاف نص قوله:{قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى}(١٠٢)[الصافات: ١٠٢] ولم يقل، إني أعزم على ذبحك، ولأنه لو كان مأمورا بمقدمات الذبح لا غير/ [١٦٩ أ/م] لما كان فيه امتحان، ولا بلاء مبين، والنص مصرح بأنه كان بلاء مبينا، وأيضا لما كان فيه مزية لإبراهيم- عليه السّلام-على غيره، إذ صغار الناس إذا علم أنه مأمور بمقدمات ذبح نفسه لا غير، لم يتوقف في فعل ذلك، ورأى أنه مأمور بأنه يلعب.
وعن الثالث بأنه لو صح، لكان أولى ما ذكر في القصة هو، إذ هو أعظم وأعجب وأغرب وأتم نعمة على إبراهيم وابنه من الفداء بالكبش، وقد ذكر وعظم إذ قال: