فلما قال الأعشى: وادلاج بعد المنام، ظنوا أن الادلاج، لا يكون إلا بعد المنام،. ولما قال زهير: الدلجن بسحرة، ظنوا أن الادلاج لا يكون إلا بسحرة. وهذا وهم وغلط. وإنما كان يجب أن يقولوا من أجل هذين البيتين: أن الادلاج بالتشديد بالنهار، لأن معنى قوله: بعد المنام هو الصبح؛ لأن المنام يكون بالليل، والانتشار بالنهار، وليس بعد النوم إلا الانتباه، ولا بعد الليل إلا النهار. أو يقولوا إن الادلاج يكون قبل المنام وبعده؛ فلذلك اشترط الأعشى "بعد المنام" لادلاجه، لا لكل ادلاج. وإنما وصف ما فعل هو، وخصه دون ما فعل غيره. وكذلك بيت زهير، إنما وصف بالسحرة ادلاجه، لا كل ادلاج، ووقت فعله لا أفعال غيره، ولولا أنه يكون بسحرة، وبغير سحرة، لما احتاج إلى ذكر "سحرة" لأنه إذا كان الادلاج لا يكون إلا بسحرة، وبعد المنام، فقد استغن عن تقييده. ومما يدل على فساد تأويلهم أنه قد يدلج المسافرون، من غير نوم ولا تغميض، ولا يبطل ادلاجهم بعدم نومهم، وإنما الادلاج عند أهل النحو والقياس، افتعال من الدلاج، والدلج: سير الليل بمنزلة السرى. والإدلاج، مخففاً إفعال منه، وليس واحد من هذين البناءين، بدليل على شيء من الأوقات. ولو كان المثال دليلا على الوقت، لكان قول القائل: الاستدلاج، بوزن الاستفعال أيضاً دليلا لوقت آخر. وكان الاندلاج على الانفعال لوقت آخر أيضا. وهذا كله فاسد عندجميع من يعقل النحو واللغة. وإنما تُحدث الأبنية معانيها التي هي لها، في الدلج وغيره، ولا تُحدث تغيير الأوقات المخصوصة في الدلاج، ولا في غيره. وإنما يتبين في الأفعال من الوقات، المضي والاستقبال/ والحال لا غير. ولا يتبين ذلك في مصادرها. فأما وسط الليل وآخره وأوله، وسحره، وقبل النوم وبعده، فمما لا تدل عليها الأفعال، ولا مصادرها؛ ولذلك احتاج الأعشى إلى اشتراط: بعد المنام. وزهير إلى: سحرة. وإنما هذا بمنزلة قولهم: الإبكار، والابتكار، والتبكير، والبكور، في أنه كله العمل بكرة، ولا يتغير الوقت بتغير هذه الأمثلة، وإن اختلفت معانيها، ومثل الإصباح، والاصطباح، والتصبح، في أنها كلها الفعل في الصبح؛ وإن تغير الأمثة لا يغير الوقت مع اختلافها. وقد بينا الحجج في هذا ونظائره بما فيه مقنع لمن عقل، في كتابنا في "اتفاق الألفاظ والمعاني" ولذلك تركنا ذكرها في هذاا لموضع لطولها.