للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وغار مغاورها. وغيل غوائلها، ومنزل نوازلها. وجعبة نبالها، وهضبة رئالها، ومذب ذئابها، ومدب ذبابها، وكوارة زنابيرها، ومغارة خنازيرها، ومرقب صقورها، ومرقد نسورها، ومكنس وحوشها، ومعرس جيوشها.

فخيمنا بقربها في المرج، وقد أنارت من مشرعات أسنتنا في ظلماء نقع خيلنا مشعلات السرج. وتقدم من العسكر جمع كثير، وجم غفير. وخيم بين إنطاكية وبينها، ووكل بها ناظر يقظته وأرقد عينها. فأقام على سبيل اليزك، ودخل في حفظ جانبها في الدرك. وصار يركب كل يوم ويقف تجاه إنطاكية صفا، ويسومها من الغارات عسفا. وليس بينه وبينها إلا النهر، ومقابل رجسها منه الطهر.

وصعد السلطان في جريدة عسكره إلى الجبل، ووقف بازاء الحصن وقوف المشتاق على الطلل. فنصب عليه المجانيق من جميع جهاته، وصوب لقم الحجر إلى لهاته، ووافق آمريه بالإذعان على خلاف نهاته، وقلنا للمقيم به خذ الأمان وهاته.

وما زالت الحجارات تناوبه؛ وصدى الصفا بالنكاية يجاوبه؛ والصخور فيه تتواقع؛ والبلايا إليه تتابع. فما شعرنا إلا بانفتاح بابه، وألجأ جماح أصحابنا عليه جماحه إلى أصحابه. وخرج مقدم الجاوية يستأذن في الحضور، ويسأل الأمن من المحذور، والحل من المحظور. ويقول إنما قنينا بغراس القنا، وبنينا على حصونها

من القنطاريات أحصن البنى. والمعاقل لا يحميها إلا معتقلوها، والبلاد لا يحفظها إلا أهلوها. وما في هذا الحصن إلا مقدمان، وما لنا بمقاومتكم يدان.

وعاد إلى أصحابه من السلطان بالأمان. وتسلمت القلعة كما تسلمت أختها دربساك بالأمس، وسلمها الداوية طائعين فعجبنا من انقياد أولئك الشمس، وأباحوها لنا وكانوا بغارون عليها من طلوع الشمس. وأنار في مطلعها سنى السنجق المنصور، وآذن المتطاول فيها من تطاولنا بالقصور. وذلك في ثاني شعبان، والنصر فيه شاع وبان.

وسلم السلطان الحصين دربساك وبغراس إلى (علم الدين سليمان) وكان صاحب حصن عزاز وقد حاز الغنى به وفاز، وما كان في الأمراء الأكابر من لا يدعي سواه الأعواز. فألزمه بهما ليعتني بحفظهما، وحضه من عصمتهما على حظهما. فتسلمهما بذخائرهما، واطلع من النفائس على مستودعات ضمائرها.

وكانت حينئذ إنطاكية قد أسعر غلتها غلاء سعر الغلة. وقل ساكنوها لما كانوا فيه من القلة. والغرارة تساوى اثني عشر دينارا، والقوم قد شارفوا فيها تبارا وبوارا. وحزنا ما في بغراس خاصة من الغلة؛ سوى ما فيها من تفصيل الأقوات والجملة، فكان تقدير اثني عشر ألف غرارة، فحصل سليمان من منبع هذا الملك على غزارة عن غزارة.

فقلت: كأني به وقد نقل هذه الغلة إلى إنطاكية وباعها، وأعرض عن متاعب

<<  <   >  >>