للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

جانب البحر مفتوح، والمقيم بها منا بكاس تفقدنا إياه مغبوق مصبوح. والطريق إليها سابلة، والذخائر إليها في كل يوم داخلة. والفرنج عن قطع الطريق عاجزة، وعزائمنا على مصابحتها ومماساتها لها دون قصدها محاجزة. وأن تأخرنا تقدموا، وأن هونا أحكموا، وأن نقضنا ابرموا. وأن قعدنا قاموا، وأن بعدنا حاموا. ومتى رمناهم تحفظوا، ومتى نمنا عنهم تيقظوا. وما دمنا نشغلهم فإنهم لحصر البلد لا يتفرغون، وإلى أمد الأمل لا يبلغون.

فقالوا: هذا أمر هين، ومما ذكرناه صواب متعين، ووجه الصلاح فيه بين. وما مقصودنا إلا أن ينتشروا ويخرجوا من مضاربهم وبصحروا. فإذا أنسوا بالرجاء، لم ييأسوا من الأرجاء. وأرخينا لهم حبل الانطار، حتى استمروا على الانتشار. وحينئذ نصحهم على غرة، ونعاجلهم كرة بعد كرة. وننقض عليهم إنقاض البزاة على البغاث، ونصدهم بالباعث الباغت لهم عن الانبعاث. وكان السلطان متكرها لما أبدوه من الرأي الملتاث، لولا ما عرض لمزاجه من الالتياث.

[ذكر الرحيل إلى الخروبة عند خيم الأثقال المضروبة]

كان السلطان مع ما ألم به من الألم، غير مبد وجه الملل والسأم. وهو في كل يوم يركب وعلى العسكر يطوف، ويقف مستطيلا على العدو ويطول منه الوقوف. ويعود وقت الظهر، وعليه أثر الضر من الصبر. فليم على فعله، وخصه الطبيب بعذله. فانتقل إلى الثقل ليلة الثلاثاء رابع شهر رمضان، وخلى المنزل الأول وأخلى العسكر ذلك المكان. وتقدم إلى من بعكاء بإغلاق الباب، وسلوك نهج الاحتراس والاجتناب. وجرى الأمر على ما كنت قلته، وتحقق من الخلل ما خلته.

فإن المركيس رحل وشغل الجانب الذي كان خاليا، ورخص عنده ما كان من سوم خوفه غاليا.

وشرع الفرنج في حفر خندق على معسكرهم حوالي عكاء من البحر إلى البر، واخرجوا ما كان في مراكبهم من آلات الحصر. وفي كل يوم تأتينا اليزكية بخبرهم، وبما ظهر من أثرهم، والجد في تعميق الخندق وتتميم محتفرهم. والعسكر هاجم، كأنه واجم، والظن فيه راجم، وشر الكفر ناجم، وما فينا لعود الأمر عاجم.

وقلت يوما للسلطان يركب العسكر إليهم، ويركض عليهم. فلعله ينال ظفرا، ويقضى من عسكر العدو وطرا. فقال ما يعمل العسكر شيئا إلا إذا كنت معه راكبا، ولعمله مشاهدا مراقبا. ولقد صدق في مقاله، فإنه كان اعرف برجاله. فإنهم كانوا يبذلون معه المهج، ويخوضون من بحر الحرب اللجج، ويوسعون لهزم العدو المأزق اللجج. وكان من قضاء الله أنا أغفلناهم، وأمهلناهم. حتى عمقوا الحفور، ووثقوا من ترابها

<<  <   >  >>