للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[ذكر وصول الأسطول المنصور من مصريوم الثلاثاء سادس عشر ذي القعدة في المراكب المستعدة المستبدة بالبأس والشدة وكانت عدته خمسين شينيا]

كان السلطان منذ وصول الفرنج إلى عكاء قد كتب إلى مصر بتجهيز الاسطول؛ وتجزية حباله، وتزجية أمور رجاله. وتكثير عدده، وتوفير عدده. وإصلاح شئون شوانيه. وإسناء رواسي سواريه. فتولى (حسام الدين لؤلؤ الشيخ) أمره، وشرح لإيراده وإصداره صدره. وأنفق من ماله ما جمع به شمل رجاله.

وهذا لؤلؤ قد اشتهرت في الكفر فتكاته، وشكرت في العدو نكاياته. وقد تفرد بغزوات لم يشاركه فيها أحد، ولم يكن فيها على الإسلام لغيره يد. وما سلك نهجا إلا ملك، ولا طلب غاية إلا أدرك. وهو ميمون النقيبة، مشكور الضريبة. وهو الذي رد الفرنج عن بحر الحجاز، ووقف لهم على طرق المجاز. ولم يترك منهم عينا تطرف؛ ولم يبق لهم دليلا يعرف. وغزواته مشهورة، وفتكاته مذكورة. وأمواله مبذولة، وأكياسه أعقد الإنفاق في سبيل الله محلولة.

فتولى الأسطول، وجمع به الطول والطول. ووصل به. وللفرنج من شوانيها على وجه البحر عقارب تدب، ولواسب سوالب ما تغيب وما تغب. وسفن حمالة ومقاتلة، وبطس للأزواد والمير ناقلة.

فصدمتها مراكبها بمناطبها، واستطال الأسطول المنصور على اساطيلها، وجاء حقه بإزهاق أباطيلها. واطلعت في سماء البحر كواكب مراكبنا نجوما، وقذفت لشياطين الكفر رجوما. وأقبلت سواريها بالرواسي، مبرمة الامراس محكمة المراسي. وقطعت اللجة بأشباه أمواجها، وسدت فجاجها بألإواجها، ونكست أعلام الأعلاج عن أثباجها. ووافت اساودها السود بالأسود، وسدت عقبانها الآفاق بأجنحة الرايات والبنود. وطارت بقوادم المجاذيف وخوافيها، وزارت بجوارح المقاذيف وعوافيها.

فجاءت وسفن العدو كالجبال تمر مر السحاب، وتطوى اللجة كطي السجل للكتاب.

فصدتها وصدعتها، وردتها وردعتها. فكأنما عبت غربانها بين أحبة الكفر أعاديها، وأناخت ظعائن الضغائن على شواتي شوانيها، وعادت قوامص الفرنج فيها قنائص جوارح جواريها.

فأول ما ظهر الأسطول المنصور بشينى للفرنج عظيم الشان، عاد طاغ بأهل الطغيان والعدوان. فقتل مقاتليه، وتبع ما يليه. فوقعت بطشته الكبرى ببطسة كبيرة، تشتمل على ميرة لهم زذخيرة وامتعة كثيرة.

وتفرقت سفن الفرنج أيدي سبا، وأصلد زندهم وكبا. وعادوا محصورين محسورين قد دفعت مراكبهم التي دافعت عن مباركهم، وأيقنوا أنهم تورطوا في مهالكهم. وسيرت بوصول الأسطول كتب إلى الأقطار، وبشر المسلمون بما حصل به من الاستظهار.

<<  <   >  >>