للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكان الثقل قد سار من الليل وجرى على طريق الملاحة في الأودية جرى السيل. وسرنا على جب يوسف إلى المنية، آخذين بالحزم تاركين للونية. وجئنا بمصر يوم الثلاثاء والسلطان نازل بأرض كفر كنا؛ وبتنا بها تلك الليلة وسكنا. ثم أصبح يوم الأربعاء خامس عشر الشهر ونزل على جبل الخروبة، واطلع منها على الأسرار المحجوبة. وأشرف على العدو النازل، ودنا حزب الحق من حزب الباطل.

وكان عدة من الأمراء ساروا على طريق هونين، للفرنج مقابلين مقاتلين. فوصلوا في هذا اليوم، وقد نالوا في طريقهم من القوم. ونزلنا في أرض صفورية بالأثقال، وتجرد الرجال منها إلى المخيم السلطاني للقتال.

وكان من رأى السلطان عند رحيل الفرنج على قصد عكا؛ ولم يزل رأيه بنور

فطنته وطيب فطرته أذكى وأزكى؛ أن يسايرهم في الطريق، ويواقعهم عند المضيق. ويقطعهم عن الوصول، ويدفعهم عن النزول. فإنهم إذا نزلوا صعب نزالهم، وأتعب قتالهم. وإذا نبتوا تعذر حصدهم، وإذا ثبتوا تعسر قصدهم. وإذا لصقوا ببطن الأرض صاروا كالقراد، وإذا حلقوا في جوالدو طاروا كالجراد. فعند الانتشار يمكن التقاطهم، وعند الانحصار يتمكن احتياطهم. فقالوا له: بل نستقيم على السنن القويم، ونطلبهم طلب الغريم. وما أهون قطعهم إذا وصلنا، وأعجل أدبارهم إذا أقبلنا. والطريق قبالتهم وعر، وللمقصر عن التطاول فيه عذر. فنمضي على اسهل الطرق، ونسد قلثهم بالفيلق.

وتبين لنل بالعاقبة أن الرأي السلطاني كان أصوب، فإن نزالهم عند نزولهم صار أصعب. ونزل الفرنج على عكاء من البحر إلى البحر، محتاطين بالانحصار محيطين بها للحصر. وضرب الملك العتيق (كي) خيمته على تل المصلبة، وربطت مراكبهم بشاطئ البحر فكانت كالآجام المؤتشبة.

وبعث السلطان ليلة وصوله إلى مدينة عكاء بعثا دخلها على غرة من العدو، وتواصلت البعوث إليها التي هي على التزايد والنمو. حتى استظهرت بغوتها، وقويت باستظهارها. فلما اجتمعت العساكر واتصلت الأوائل بالأواخر؛ عبي جيشه طلبا طلبا، وميمنة وميسرة وجناحا وقلبا. وسار بهيئته وهيبته، وانزل العسكر على تعبيته. ونزل بمرج عكاء على تل كيسان في ذوي اختصاصه، وقد نصب من خيامه عليه اشراك اقناصه. وامتدت الميمنة إلى تل العياضية والميسرة إلى نهر الماء العذب.

فدارت رحى الحرب، ودام كر الكرب، وطاب طعم الطعن والضرب، وطافت كأس البأس بمدام الدم على الشرب، ووافى للانجاد عسكر الشرق ماضي الغرب. وصرنا محاصرين للمحاصرين، مكابرين للمكابرين. قد أحطنا بالعدو وهو بالبلد

محيط، واستشطنا منه وهو مستشيط. وأحدقنا بأولئك الكفرة إحاطة النار بأهلها، ومنعنا الطرق من ورائهم في وعرها وسهلها. ورتبنا بالزيب والنواقير رجالا

<<  <   >  >>