للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وآخرون صودفوا عند التل. فجاءتهم السعادة، وفجأتهم الشهادة. وهؤلاء سوى من وقع في الوقعة، وذهب قبل الرجعة.

وأجمع السلطان وذوو الآراء أنه يصبح القوم، ويباكر في طلب أرواحهم السوم. وقال: هؤلاء قد أضعفنا قوتهم، وأعجزنا قدرتهم، وفثأنا سورتهم، وأخمدنا فورتهم، وقتلنا مقاتلتهم، وأدوينا داويتهم. فإن تركناهم بلعوا الريق، وبلغوا في الاحتزاز والاحتراس الطريق. فنحن نوافيهم غدا، ونوفيهم رجى. ونكيلهم بصاع المصاع، ونذرعهم بباع السباع، ونقيسهم بذراع اليراع ونوسعهم قرى القراع. وتذيقهم حر الحرب، ونسيغهم في كعم الطعن ضرب الضرب. ونعين من عيونهم للسهام سهاما، ونتخذ لأرواح النصال من أجسامهم أجساما. ونغرقهم بماء الهند وانيات، ونحرقهم بنار زند اليمانيات. ونوجد من عدمهم النصر، ونطيب من نتنهم

النشر. ونقطع دابرهم، ونلحق بأولهم آخرهم.

فلما اتفقت الآراء على إمضاء هذا العزم؛ وإجراء هذا الحكم، تفقدوا العسكر فإذا هو قد غاب، لما ناب من الأمر وراب. وذلك أن غلمان العسكرية وصحابها؛ وأوباش الجمع وأوشابها؛ طنوا تلك الفورة هزيمة، فنهبوا الأثقال والأحمال وعدوها غنيمة. وانهزم من انهزم من الجند، وثبت من ثبت من أهل الجد فمن عاد إلى رحله وجده منهوبا مسلوبا، وكان ظنه أنه فرغ من لقاء خطب فلقي خطوبا. فمضوا وراء الغلمان، وبلوا بسوء دين السودان. وأصبحنا وإذا العسكر غائب، والعازم عازب. والقاصم قاص، والطائع عاص. والجمع متفرق، والثابت قلق، والآمن فرق. والغنى معدم، والجريء متندم. فهذا خلف ما ذهب من ماله ذاهب، وهذا لمن طلب الطريق بأثقاله طالب. فتفتقر ذلك العزم، وتأخر ذلك الحكم.

وانتعش الفرنج في تلك المدة، وانتشلوا من تلك الشدة. واستطالوا بعد الاقصار، وفرغوا لشغل الحصار. وجاءتهم في البحر مراكب أخلفت من عدم، وبنت ما هدم. فكمل بالمدد ما نقص من العدد. ولولا أن الله تعالى قدر بقاءهم، لكنا عاودنا صباح تلك الليلة لقاءهم. فإن الفرصة ما امكنت، والحصة تعينت. والجو خال، والضو عال، والحال جميلة والجمال حال. فقضى الله بما قضى، وعرانا المضض بما مضى.

وبقيت تلك الجيف منتنة مبتثة، وتلك الجثث محينة مخبثة مجتثة. تعرفنا أن نشورها من حواصل النسور، وأن قبورها بطون الضباع والنمور. فشكونا نتن رائحتها، وشكرنا بمن جائحتها. فجعل السلطان حملها على العجل إلى النهر، ليشرب من صديدها أهل الكفر. فحمل إلى الماء أكثر من خمسة آلاف جثة، بعث إلى النار قبل يوم البعثة. فما عبر بها إلا من اعتبر، واستشفى من أقبل بمن أدبر. وسلم الله من أسلم، وكف ورد بالردى من كفر.

<<  <   >  >>