للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الفرنج ما سره، وعرف لطف الله وبره ونصره. وعاين هنالك مصارع الأعداء، ومشارع البلاء. وكانوا مفروشين في مدى فرسخ على الأرض، وهم في تسعة صفوف من تلال الرمل إلى البحر بالعرض. وكل صف يزيد على ألف قتيل، وشاع القتل من الفرنج في كل قبيل.

ولما وصل السلطان رأى عماد الدين وابن زين الدين وأمراء الميسرة قد عزموا على الدخول اليهم والهجوم عليهم. فإنهم ندموا على ترك الإسراع، فراموا أتباعهم ليأخذوا بنصيب الفتك بهم والإيقاع. فصدهم السلطان وردهم، وشكر عزمهم وقصدهم. وأشفق من مضرة تشوب، ومعرة تنوب. فإن الدائرة كانت على العدو، وقد فاز بالنصر الحلو والصفو المرجو.

وكانت النوبة لا نائبة، والغزوة بلا شائبة. وقتل منهم زهاء عشرة آلاف ولم يبلغ من استشهد من أتباع العسكر عشرة، فاغتنمها تجارة رابحة وغنيمة ميسرة ولما عرفت بالواقعة؛ والنصرة الجامعة، صدرت ثلاثين أربعين كتابا بالبشارات، بأبلغ المعاني وأبرع العبارات. وقلت إذا نزل السلطان وجد الكتب حاضرة، ولأرى

البشائر شائرة.

وركبت أنا والقاضي بهاء الدين بن شداد، لمشاهدة ما هناك من أشلاء صرعى وأجساد. فما أعجل ما سلبوا وعروا، وفروا وفروا. وقد بقرت بطونهم، وفقئت عيونهم. ورأينا امرأة مقتولة لكونها مقاتلة، وسمعناها وهي خامدة بالعبرة قائلة. وما زلنا نطوف عليهم ونعبر، ونفكر فيهم ونعتبر؛ حتى ارتدى العشاء بالظلام، فعندنا إلى الخيام. وأخذت الكتب التي نمقتها، وبالبشائر التي حققتها. وجئت وإذا السلطان قد استبطاني، وعدم إجابتي لما دعاني. فما صبر ولا انتظر، ولا ترقبني أن أحضر. ولا أمهل أن أعطي البشارة حقها، وأجلوا بأنوار المعاني أفقها، وأبلغ بالبلاغة مداها، وأسبغ بتقليص الضلالة ثوب هداها. وأصف بحدود الأقلام ما صنعته حدود السيوف، وأروج نقودي عند السلطان وأغنيه عن الزيوف. فأبصرت عنده مشرفي المطابخ والأبيات، ومدوني الجرائد بالإثبات. وقد كتبوا تلك البشارة الثقيلة الجليلة في رقاع خفيفة، بعبارات سخيفة. وقد عطلت الحسناء من حليتها، وعروها من بزتها، وشوهوا جمالها، وأحالوا حالها.

فذهب بها المبشرون، وسار القاصدون. فما كان لتلك الوقعة عند من وقف عليها وقع، ولا تم لغليل من رام الاطلاع على حقيقتها نقع. وأرادوا بدمشق قراءتها على المنبر فما استحسنوها، ولو وردتهم بزينة عبارتي وبراعتي زينوها. وفي تلك الحالة التفت السلطان إلى وقال: أكتب بهذه البشارة إلى بغداد، وعجل بها الإنفاذ. فقلت على سبيل العتب: أنتم ما تريدون ما اكتبه، ولا ترغبون فيما أرتبه وأهذبه.

<<  <   >  >>