للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

متاعبها، مسرعة إلى معاطن معاطبها. وترد بقناطير اموالها، وجماهير رجالها، ومساعير مصالها، ومشاهير أبطالها. ويحدقون بها من برها وبحرها، ويجثمون بين سحرها ونحرها.

وما زالوا يقاتلون أبراجها بالأبراج، ويسومون جدتها بالإنهاج، ويرومون علاج كرامها بمراماة الاعلاج. ويقارعونها ليلا ونهارا، ويبقمون أفواه خنادقها أحجارا، ويناجونها بألسنة المجانيق الطوال، ويطيرون إليها على حمام الحمام كتب الآجال. ويكافحونها قراعا، ويدبون إليها للمضايقة خطا وساعا. ويناطحونها بالكباش، ويعاقرونها من حرابتهم وحرابهم بكلاب الهراش، وحيات النهاش. ويرامونها بكل منجنيق عظيم الخلق، كأنه حامل على الطلق. لا تلد إلا أمات الدواهي، ولا تدع

الراسخ الراسي إذا قابلته غير الواهن الواهي.

ويقتل الله منهم العدد الدهم، والجمع الجم. ويهلك ألوفا، حتى يعود نافرهم للمنون ألوفا. وقد تجاوزت عدة القتلى منهم في هذه المدة، سوى من هلك بالضائقة والشدة؛ خمسين ألفا قولا لا يتسمح فيه المعبر بالبيان، بل يتصفحه المحرر بالعيان. إلى هذه السنة والحالة في تحقيق قمعهم وتفريق جمعهم جارية على الوتيرة الحسنة. واشتعلت في قلوب أهل النار نار البواعث، وتحدثوا في الحادث. وثاروا للثار، وزاروا بالزار.

وانبرى ملكا افرنسيس وانكلتير، وملوك آخرون دبروات أحكامهم وأحكموا التدبير. وجاءوا في مراكب بحرية حربية، وبطس حمالة فرنجية، واجروا في البحر منها السيول، وجروا من ذوات الشراع عليها الذيول، وحملوا فيها الخبالة والخيول. ووصلت كل قطعة كأنها قلعة، وكل بطسة كأسها تلعة. وكل سفينة فيها مدينة، وكل مجرة على سماء البحر بنجوم الرجوم مزينة. فأحدقت بالثغر من البر والبحر، وأحاطت بمركز الإسلام دائرة الكفر. وأطافت منها الأسواء بالأسوار، والظلماء بالأنوار. ومنعت الداخل والخارج، وسدت على ناقل الميرة وحامل السلاح الموالج والمناهج.

وزاحفوه بكل منجنيق كنيق، وكل برج وثيق، وكل دبابة كأنها دابة الأرض التي تقوم عندها القيامة، وكل سلم لا ترجى معه السلامة. وكل آلة آلت أن الفتح منها بالحتف، وأقسمت أنها تقسم سهام سهامها لذوى الحفز بالزحف. هذا والعدو قد حفر من جانبنا وعمق، وسور وخندق. وتدرع بأسواره وخنادقه، وتستر عن طوارق البلاء بستائره وطوارقه. فلا يخرج منه إلى معاركه، ولا يدخل إليه لضيق مسالكه. وهو متحر متحرس، متستر متترس. عاص على الهجم، عاس على العجم. لا يقتحم سده، ولا يلتثم حده.

ولم تزل الحالة تتمادى، والواقعة وليدها لا ينادي، والمدى يتطاول، والمدد يتواصل. والقضية تترامى، والرمية تتقاضى، ومقاتلة الثغر صابرون مصابرون، مكابرون مضابرون. فمن مستشهد عدله الجرح، ومن مستنجد عطله القرح، ومن دام بالجرح

<<  <   >  >>