للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تلين، وأبيتها تدين، وسريرها يبين.

وكان قد دخل كانون، وظهر من سر الشتاء المكنون. وقبض البرد الأيدي عن

الانبساط، وأعدم الهمم دواعي النشاط. وعادت العزائم المتوهجة تبرد، والصرائم المتأججة تخمد. والنخوات المتحركة تجمد، والحميات المتيقظة ترقد. والضرام المحتدم يخبو، والحسام المخذم ينبو. والطباع تتكره، والسباع تتأوه. ومناوبة القتال تختل، ومعاقدة النزال تنحل. فلحاهم السلطان على ما لاح، وعرفهم أن في الصبر الفلاح. وأمرهم بالمقام والاستقامة على الأمر، وأنه لا ظفر إلا مع الصبر، وأن الظلم تنجلي عند تجلي الفجر.

وكان في الأمراء جماعة منتخبون منتخون، أبت أمانتهم في حمية الدين أن تخون. مقيمون على الكريهة ولا كراهة منهم للمقام، ويحبون أن تقام وظيفة الانتقام. ويؤثرون بأنفسهم في طاعة الله وموافقة السلطان، وعصيان الشيطان في مفارقة المكان. فإذا أرجف بالرحيل رجفوا، وسخفوا رأي المشير به وضعفوا. واضطربوا واضطرموا، وتذمموا وتلوموا.

وقالوا كيف نترك ما حويناه، ونعوج ما سويناه، وننشر كفرا طويناه، ونهجر خيرا نويناه. ونداوي توحيدا شفيناه، ونشفي إشراكا أدويناه. وما للراحة اليوم طالب؛ ألا وهو غدا بالتعب مطلوب. ومن أمسى وهو الآن غالب، يوشك إذا ولى أن يصبح وهو مغلوب. وهذه صورة صور قد تشوهت، وموارد قوتها شفهت، وإذا أخلينا عنها وخليناها ترفهت واستفرهت، وإذا حلمنا عنها سفهت، وهبت من غشية خشيتها وتنهبت. وتارك المصابرة مصاب، والآخذ بالمثابرة مثاب.

فمنهم الأمير طمان بن غازي ما اطمأن يوما في الغزو ولا سكن. وعز الدين جرديك النوري كم جرد على أعناق المشركين سيفه الذي به تمكن، وهما همامان مقدمان مقدامان، من عادتهما الوثبات على ثبات العداة يرومان الثبات ولا يريمان. وجماعة أخر بهما يتشبهون، وبالكريهة لا يتكرهون.

وأما الباقون فأنهم أحبوا البقاء، وأبغضوا اللقاء، واتقوا الاتقاء، وأبوا ألا الإباء.

وقالوا قد لغبنا وما بلغنا، وجرحنا وما رجحنا، فلو رحنا استرحنا، ثم عجنا ورجعنا. وما نحن بأول واضع للاصر، راجع عن الحصر. معتف للعقل، مستعف من الثقل. عامل بمحض الحزم، عالم بوقت العزم. هذا وقد علم ما عرا من ضروب الكروب، وتلثم ما برى من غروب الحروب. وبقدر ما هدم من مباني البلد، هدم أكثر منه من مباني الجلد.

فقال السلطان بل نجد في القتال اياما، ونقدم بأسا وإقداما. ونزحف بجميع رجالنا، ونصدقهم في نزالنا. ونقاتلهم من جميع النواحي، فإن تعذر لاح العذر للاحى.

وأصبح العسكر وقد استعد، وامتد قبالة البلد من البحر إلى البحر والنصر استمد.

<<  <   >  >>