للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الرياض بالرياضة.

فالعاقل من لا يتخذ في دار الوائر معقلا، ولا يجد في منازل التوازل منزلا. ولا يركن إلى فناء الفناء لبيب، ولا يسكن في غار الغرور أريب. وكيف يبني العمران والعمر إلى الهدم، والغنم في الدنيا الدنيئة عين الغرم. وقال السعيد من يبني دار الآخرة، وينجو من أمواج الدنيا الزاخرة. ثم صرف في تلك الأيام (الصفي) عن ديوانه، وأبقاه في شغل الخزانة على مكانه. وسمعته يقول في بعض محافله، وقد أجرى له حديث من يفرح بمنازله كان من ذنوب الصفي عندي أنه بنى لي تلك البنية، فدل على أنه لم يوافق منه الأمنية. وقال ما يعمل بالدار من يتوقع المنية وما خلقنا إلا للعبادة، والسعي للسعادة. وما يخطر لنا في هذه خلود بالخلد، وما لنا وللمقام في البلاء والبلد. وما جئنا لنقيم، وما نروم إلا أن لا نريم، وما تحركنا إلا للسكون، وما أسهلنا إلا للعود إلى الحزون. فما بجني ثمر الراحة إلا من مغرس التعب، وما يجبى نصيب المغنم إلا من مغرم النصب. فأين الأين، الذي تقر به العين، وما يحصل السكون في المسكن ولا يكمل الوطر في الوطن. لا سيما والدين يطالبنا بدينه، والكفر يستغرب منا حين حينه. والبلاد سائبة، وللبلاء هائبة. فلا تفوح الفتوح إلا بهبة بنا، ولا ينزل النصر إلا بركوبنا، وغدا للحزم متمما، وللعزم مصمما.

ووصل الخبر بوصول عسكر الشرق بالغرب الماضي، والحد القاضي. والجمع الوافر الوافد، والجمر اللافح الواقد. وأن (عماد الدين زنكي ابن مودود بن زنكي) قد أقبل بقبيله، ووصل برعيله. وقدم بجده، وأقدم بحده. وأنه حل بحلب ثم سار عنها مسارعا، وجاء معه الجيش للنجدة والجدة جامعا. فارهف العزم السلطاني خبر وصوله، وحل بالشد للرحيل عقد حلوله.

وكان القاضي الأجل الفاضل ذو الجلالة والفضل؛ والنباهة والنبل، متأخرا في بيته لشكلة أقام في غيرها، واستقام مزاجه الكريم منها وهو في ترقب زوال أثرها. والسلطان بنجح سعيه متبرك، وبنصح رأيه متمسك، وبطوله عالم، وبقبوله عامل، وبعبارته قائل، ولا شارته قايل.

فأراد السلطان أن يقدم بلقائه الاجتماع، وبرأيه الانتفاع. ويستنير بنوره، ويستشيره في أموره. ويفاوضه في تفويضاته، ويقلده في تقليداته، ويتبرك بميامينه ويتيمن ببركاته. فإنه طالما اجتلى سني السعادة من مطالعه، واجتنى جنى الإرادة من صنائعه. وافتتح الأقاليم بمفاتح أقلامه، وأحكم المملكة بثبوت أحكامه. ووافاه لإمداد السؤدد الوافي سواد مداده، وجاءه بالوجاهة في دينه ودنياه لإسعافه وإسعاده.

وكان قد خرج إلى جوسق بالشرف الغربي الأعلى، ليتفرغ هناك للعبادة ويتخلى. فأصبح السلطان بكرة يوم الثلاثاء حادي عشر ربيع الأول على الرحيل،

<<  <   >  >>