للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الغنى بإفلاسها. وافتقرت واقترت، وخربت وتربت.

ثم لما طابت النفوس؛ وتجلى عن البلد بفتحه البوس؛ عاد إلى هذه الكنيسة بالأمان القسوس؛ وهي متشوهة متشعثة، مستمسكة بأركانها وقواعدها متشبثة. ولقد كثر أشفى على تلك العمارات كيف زالت، وعلى تلك الحالات الحاليات كيف حالت، ولكنما زاد سروري بأنها عادت للإسلام مرابع، ولسروحه مراتع، ولجموعه مجامع، ولشموسه مكالع. فلو بقيت بحليتها وحالتها بعد ما تبدلت رشدها من ضلالتها، لشاقت وراقت، وكما أفاقت فاقت. وشأت البلاد إذا شاءت، لكنها ساءت لما أساءت. ثم أعادها الإسلام إلى أحسن حالة، وجلا لها في السناء اسنى جلالة.

ورغب في إعطاء الجزية سكان البلد من النصارى والأرمن، حبا للوطن وسكونا إلى السكن. فآض مأمول الجنى مأهول الجناب، وعاد بتجار البحار مملوء الرحاب. وتبدل بالابدال الأخيار، والأرباب الأبرار، من بعد الكفار الفجار، والأشرار أهل النار.

وكانت شواني صقلية قد قابلت في البحر اللاذقية طمعا في امتناعها، وطلبا لذيادها عنها ودفاعها. فلما خابت نارها، وباخ اوراها، وقصدت لجلها اخذ مركب من يخرج من أهلها، لكونهم شغلوا عن صونها ببذلها. فامتنعوا عن الانتقال، وأمنوا بعقد الذمة على النفس والمال.

وكان السلطان يوم الرحيل من اللاذقية راكبا عند ميناها، وقد حصل من ترتيب العمارة مناها. فطلب مقدم تلك الشواني أمانه، ليصعد ويشاهد سلطانه، فأمنه حتى صعد، ولو اسلم ذلك الشقي لقلت سعد. ولما حضر الكافر عفر وكفر، وتروى

ساعة وتفكر. وأحضرها الترجمان، وأدى عنه البيان وقال أنت سلطان عظيم، وملك كريم، وملك رحيم. وقد شاع عدلك، وذاع فضلك، وقهر سلطانك، وظهر إحسانك. فلو مننت على هذه الطائفة الخائفة فأمنت؛ أفضلت عليها وأحسنت؛ لملكت قيادها إذا أعدت بلادها. وساروا لك عبيدا، وأطاعوك قريبا وبعيدا. وأن أبيت غير الغيرة والإباء، ودمت على إرهاق الدهماء وإهراق الدماء؛ جاء من وراء السبعة البحار من يسد فضاء السبع الطباق، وأفاق للتناصر على دفع هذا الخطب نصارى الآفاق. وثار الروم لروم الثار، وخرج الفرنج أنفارا للاستنفار وسار ملوك ذوي الاقانيم، من سائر الممالك والأقاليم. وأتى الآتي، ولا يقاوم القدر الماتي. وهؤلاء أهون منهم، فاتركهم واصفح عنهم.

فقال السلطان قد أمرنا الله بتمهيد الأرض، ونحن قائمون في طاعته بالفرض. وعلينا الاجتهاد في الجهاد، وامتثال أمره فيه بالانقياد، وهو الذي يقدرنا على فتح البلاد، ولا تكترث الآساء بكثرة النقاد، ولو اجتمع أهل الأرض، ذات الطول والعرض، لتوكلنا على الله في اللقاء، ولم نبال بأعداد الأعداء. فلما سمع ما فهمه من نجهه، ذهب بعد أن صلب على وجهه، وركب بكربه، وكر بركبه، ولم يغن خطابه عن خطبه.

<<  <   >  >>