كوجوب الواجبات، وتحريم المحرَّمات، والحدود المقدَّرة بالشَّرْع على الجرائم، ونحو ذلك، فهذا لا يتطرَّقُ إليه تغييرٌ ولا اجتهاد يخالف ما وُضِعَ عليه، والنوع الثاني: ما يتغيَّر بحسب اقتضاء المصلحة له زمانًا ومكانًا وحالًا، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها؛ فإن الشارع يُنوِّع فيها بحسب المصلحة" (١).
فكثيرٌ من الجرائم والمخالفات والجُنَح دون الحُدُود، تدخُل تحت النوع الثاني، فيُرجَع فيها إلى المصلحة والعُرْف؛ فلذلك كان فقه الشريعة صالحًا لكل زمان ومكان، بل قبل ذلك لربانيَّة مصدره، وعندما يحاول المسؤول سَنَّ نظامٍ مُعيَّنٍ من النوع الثاني أيًّا كان فيُحدِّده، عندها سيجد صعوبةً في ذلك؛ حيث إن الوقائع والأزمنة والأمكنة تختلف! فيكثُر الانتقاد وتوجد الثغرات فيه! ولربما صار هدفُه عكسَ ما وُضِع لأجله، فيعالج أمرًا ويظهر آخر.
صحيحٌ أنَّ هناك ضوابطَ يعرفُها المختصُّون ربما تُخفِّف هذه القضية؛ لكن كُلَّما جُعِلت الواقعة للحاكم أو القاضي نفسه يَحكُم فيها بما يتناسب مع المكان والزمان، كان ذلك أدعى للعدل وأضبط للمجتمع، ولو حصل خلَلٌ أو تبايُنٌ في الأحكام، فالخَلَلُ في تقدير القاضي نفسه، وليس الحل بإنشاء نظامٍ جديد؛ بل الحل في تدقيق الجهة القضائية الاستئنافية للحكم وتقدير العقوبة، وهنا تنتهي القضية، أمَّا لو أُنشئ نظامٌ جديدٌ، فسيحصُل نفس الخَلَل وتكثُر وتترهَّل الأنظمة، بخلاف الآخر، فحتمًا سيجد الجاني عقوبته، ولن يجد ثغراتٍ تُخفِّفُها أو تزيلها عنه.