في وسْط الأرض، وعلى بعد متساوٍ من محيط قاراتها القديمة والجديدة، تقع زهرة المدائن، وعروس البسيطة، وينبوع الرحمة، في وادٍ غير ذي زرع.
مدينة لها حرمتها عند الله وفي قلوب المؤمنين، فهي ساحة للموحدين، وموئل للتائبين، وفضاء خاص بالمسلمين لا يقيم فيه أحدٌ من المشركين، ولايؤْذَن فيه لإطلاق نزوات العصاة والإباحيين، عندها تنتهي رغبات العقلاء، وتسمو نفوسُ الصُلحاء، وترتقي أخلاق الوافدين، وتتغذى أفئدة المغادرين، لاينفَّر فيها صيد، ولا يؤذى مخلوق ولو كان حيواناً ما لم يكن مؤذياً.
الأمان فيها عنوانُ السُّكنى، والسلام في أرضها مدرسة خِصبة. الثأر بين جنباتها ممنوع، والكفر عن وجهها مرفوع، وصور الفسق متآكلة محظورة. يدخل الناس إليها محرمين بطواف الترحاب والسلام والقدوم، ويغادرونها بطواف الوداع والشجون، وعيون قلوبهم تذرفُ بالدموع.
تلكم هي مكة المكرمة (١) أول بيت وضع في الأرض مطلقاً، بدليل ما جاء به بيان
(١) تقع مكة المكرمة في الجهة الغربية من المملكة العربية السعودية، بأرض الحجاز في بطن واد تشرف عليه الجبال من جميع النواحي، إحاطة الدائرة بالمركز النوراني (الكعبة المشرفة)، وقد كانت المناطق المنخفضة من ساحة مكة تسمى البطحاء، وما كان شرق المسجد الحرام يسمى المعلاة، وما كان إلى الغرب والجنوب يسمى المسفلة، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل المعلاة فيها ولد، وفيها سكن حتى هاجر، ومنها دخل يوم فتح مكة، وتعرف المعلاة أيضاً بالحَجون، وهو جبل تقع مقبرة المعلاة بسفحه من الجنوب الغربي، وبه عرفت المنطقة التي تليه ولمكة المكرمة ثلاثة مداخل رئيسية: المعلاة، المسفلة، الشبيكة. اُنظر تاريخ مكة المكرمة قديماً وحديثاً للدكتور محمد إلياس عبد الغني ص ٩ ..