للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

السلطان، ويُسَبِّب له التغرُّبَ عن الأوطان، وتُنَفّذُ إليه سِهامَ الألسنةِ الرواشِق، ورِماحَ الطَّعنِ في يدِ كلِّ ماشق، فلهذا لم يَزَلْ مُنغَّصًا عليه طولَ مُدَّتِه، لا تكادُ تَنفرِجُ عنه جوانبُ شِدَّتِه (١).

هذا مع ما جَمعَ من الورع، وإلى ما فيه من العُلَى، وما حازَه بحذافيرِ الوجود في الجود، كانت تأتيه القَناطيرُ المقنطرةُ من الذهب والفضة والخيلِ المُسَوَّمةِ والأنعامِ والحرثِ، فيَهَبُه بأجمعِه، ويَضعُه عند أهل الحاجةِ في موضعِه، لا يأخذ منه شيئًا إلَّا ليهَبه، ولا يَحفظُه إلَّا ليُذْهِبَه كُلَّه في سبيل البرّ، وطريق أهلِ التواضع لا أهلِ الكِبْر. لم يَمِلْ به حُبُّ الشهوات، ولا حُبِّبَ إليه من ثلاثِ الدنيا غير الصلاة.

ولقد نافستْ ملوك جَنكِزْ خان عليه، ووَجَّهَت دسائِسَ رُسُلِها إليه، وبعثَتْ تجدُّ في طلبهِ، فنُوسِيَتْ عليه لأمورٍ أعظمُها خوفُ توتُّبِه، وما زال على هذا ومثلِه إلى أنْ صَرعَه أجلُه، وأتاهُ بَشِيْرُ الجَنَّةِ يَستعجلُه، فانتقل إلى اللهِ والظنُّ به أنَّه لا يُخجِلُه.

وُلِد بحرَّان يومَ الاثنين عاشرَ ربيع الأوَّل سنة إحدى وستين وستمائة، وقَدِم مع والدِه وأهلِه دمشقَ وهو صغير، فسمعَ ابن عبد الدَّائم وطبقتَه، ثمَّ طلبَ بنفسه قراءةً وسماعًا من خلقٍ كثير، وقرأ بنفسه الكتب، وكَتبَ الطباقَ والأثباتَ، ولازمَ السماعَ مدةَ سنين، واشتغل بالعلوم.

وكان من أذكى النَّاس، كثير الحفظ قليل النسيان، قلَّما حفظ شيئًا فنسيه.


(١) ما سبق من كلام المؤلف، ناتج عن تأثره بما كان عليه أهلُ عصره من معاداةٍ لشيخ الإسلام، واتهامه بما هو منه براء.

<<  <   >  >>