تَقدَّمَ راكبًا فيهم إمامًا ... ولولاه لما رَكِبُوا وَراءَا
فجَمعَ أشْتَات المذاهب، وشُتَّاتَ المذاهب، ونَقَلَ عن أئمةِ الإجماعِ فمَنَ سِواهم مذاهبَهم المختلفةَ واستَحْضَرَها، ومَثَّل صُوَرَهم الذاهبةَ وأحْضَرها، فلو شعَرَ أبو حنيفةَ بزَمانِه ومَلَكَ أمرَه لأدْنَى عَصْرَهُ إليه مُقرِّبًا، أو مالكٌ لأجْرَي وراءَه أشهبَه ولو كَبَا، أو الشَّافعيُّ لقالَ: ليتَ هذا كَانَ للأمِّ وَلَدًا، أو: لَيتَني كنت له أبَا، أو الشيبانيُّ ابنُ حنبلٍ لما لامَ عِذَارَه إذا غَدا منه لفَرْطِ العَجبِ أشْيَبَا، لا بل داودُ الظاهريُّ وسِنَان الباطنيُّ لظَنَّا تحقيقَه، من مُنتَحَلِه، وابنُ حَزْمٍ والشَّهْرستانيُّ لحَشَرَ كلٌّ منهما ذِكرَه أمَّةً في نِحَلِه، والحاكمُ النَّيسابوري والحافظ السِّلَفي لأضافَه هذا إلى استدراكِه وهذا إلى رِحَلِه.
تَرِدُ [إليه] الفتاوي ولا يَردُّها، وتَفِدُ عليه فيُجِيب عليها بأجوبةٍ كأنَّهُ كَانَ قاعدًا لها يُعِدُّهَا:
أبدًا على طَرَفِ اللسانِ جوابُه ... فكأنَّما هي دَفعةٌ مِن صَيِّبِ
ولقد تَضَافَرتْ عليه عُصَبُ الأعداءِ فَأُلْجِمُوا إذْ هَدَرَ فَحْلُه، وأُفْحِمُوا إذْ زَمزَمَ ليَجْنِيَ الشهدَ نَحْلُه، ورُفِعَ إلى السلطانِ غيرَ مَا مَرَّةٍ ورُمِيَ بالكبَائِر، وتُرُبِّصَتْ به الدَّوائِرُ، وسُعِيَ به ليُؤْخَذَ بالجَرائِر، وحَسَدَه مَن لم يَنَل سَعْيَه وكثر فَارتَابَ، ونَمَّ فما زادَ على أنَّه اغتابَ.
وأُزْعِجَ من وَطنِه تارةً إلى مِصْرَ ثمَّ إلى الإسكندرية، وتارةً إلى مَحْبِسِ القَلْعَةِ بدمَشْقَ، وفي جميعها يُودَعُ أخْبِئَةَ السُّجونِ، ويُلْدَغُ بِزُبَانَى المَنُونِ، وهو