للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

على علمٍ يُسَطِّرُ صُحُفَه، ويَدَّخِرُ تُحَفَه، وما بينه وبين الشيء إلَّا أنْ يُصنِّفَه، ويُقرِّطَ به ولو سَمْعَ امْرِئٍ واحدٍ ويُشَنِّفَه، حتَّى تَسْتَهديَ أطرافُ البلادِ طُرَفَه، وتَسْتَطلعَ ثَنايا الأقاليم شُرَفَه، إلى أنْ خَطَفَتْه آخرَ مَرَّةٍ من سِجْنِه عُقَابُ المنَايا، وجَذّبَتْهُ إلى مَهْوَاتِها قرارةُ الرزايَا.

وكَانَ قبلَ مَوتِه قَد مُنِعَ الدَّواةَ والقَلَم، [وطُبِعَ على قلبه] منه طابعُ الألَمِ، فكان مبدأ مَرَضِه ومَنْشَأ عَرَضِه، حتَّى نزلَ قِفارَ المقابر، وتركَ فَقَارَ المنابر، وحَلَّ ساحةَ تُربه ومَا يُحاذِر، وأخذَ راحةَ قَلبه من اللائِم والعاذِر، فماتَ لا بل حَيِي، وعُرِفَ قَدْرُه لأنَّ مِثلَه ما رُئِي.

وكان يومُ دَفْنِه يَومًا مشهودًا ضاقت به البلدُ وظواهِرُها، وتُذُكِّرتْ به أوائِلُ الرَّزايا وأواخِرُها، ولم يكن أعظم منها مُنذُ مِئِينَ سِنِينَ جنازة رُفِعَتْ على الرِّقَابِ، ووُطِئَتْ في زِحَامِهَا الأعقابُ، وسارَ مرفوعًا على الرُّؤوس، متبوعًا بالنفوس، تَحْدُوهُ العَبَرات، وتَتْبَعُه الزَّفَرات، وتقولُ له الأمم: لا فُقِدتَ مِن غائب، ولأقلامه النافعةِ: لا أبْعَدَكُنَّ اللهُ مِن شَجَرات.

وكان في مَدَد ما يؤخذ عليه في مقاله ويُنْبَذُ في حُفْرةِ اعتقالِه، لا تَبرُد له غُلَّة في الجمع بينه وبين خُصَمائه بالمناظرة، والبحثِ حيث العيونُ ناظرة، بل يَبدُر حاكمٌ فيحكمُ باعتقاله، ويمنعه من الفتوى، أو بأشياءَ من نوعِ هذه البلوى، لا بعد إقامة بيّنةٍ ولا تقدُّمِ دعوى، ولا ظهورِ حجّةٍ بالدليل، ولا وضوح محجَّةٍ للتأميل، وكان يَجد لهذا ما لا يُزَاح فيه ضَرَرُ شَكْوَى، ولا يُطْفَأُ ضَرَمُ عَدْوى:

وكلُّ امرئٍ حازَ المكارمَ محسود

كضَرائرِ الحسناءِ قُلنَ لِوَجْهِها ... حسَدًا وبُغْضًا إنه لَدَميمُ

<<  <   >  >>