كل هذا لتبريزه في الفضل حيثُ قصَّرتِ النُّظَراءُ، وتَجلِّيْهِ كالمصباح إذْ أظلمت الآراءُ، وقيامِه في دفع حُجَّةِ التَّتارِ، واقتحامه وسيوفُهم تتدفَّقُ لُجَّةَ البِدار، حتَّى جَلَس إلى السلطان محمود غازان حيث تَجِم الأُسْدُ في آجامِها، وتَسقُط القلوبُ في دواخلِ أجسامِها، وتَجِدُ النارُ فتورًا في ضَرَمِها، والسيوفُ فَرَقًا في قَرَمِها، خوفًا من ذلك السَّبُع المغتال، والنمروذِ المختال، والأجل الَّذي يُدفَع بحيلةِ مُحتال، فَجلس إليه وأومأ بيده إلى صدرِه، وواجَهَه ودرأ في نَحْرِه، فطَلَبَ منه الدُّعَاء، فرفَع يديه ودعَا دُعاءَ مُنصفٍ أكثرُه عليه، وغازانُ يؤمِّنُ على دعائه وهو مُقبلٌ إليه. ثمَّ كَانَ على هذه المواجهة القبيحة، والمشاتمة الصريحة، أعظم في صدرِ غازانَ والمُغَل من كلّ من طلعَ معه إليهم، وهم سلف العلماء في ذلك الصَّدْر، وأهلُ الاستحقاقِ لرِفعةِ القَدْر.
هذا مع ما له من جهادٍ في الله لم تُفزِعْه فيه طلل الوشيج، ولم يُجزِعْه فيه ارتفاع النشيج، مواقفُ حروبٍ باشرَها، وطوائفُ ضُروبٍ عاشرَها، وبَوارِقُ صِفاحٍ كاشَرَها، ومضايقُ رِماح حاشَرَها، وأصناف خُصومٍ لُدٍّ اقتحمَ معها الغمراتِ، وواكلَها مختلفَ الثَّمرات، وقَطَع جِدالَها قوِيُّ لسانِه، وجِلَادَها شَبَا سِنانِه، قامَ بها وصابَرها، وبُلِيَ بأصاغِرها وقاسَى أكابرَها، وأهلِ بِدَعٍ قامَ في دِفاعِها، وجَاهدَ في حَطِّ يَفَاعِها، ومخالفةِ مِلَلٍ بَيَّنَ لها خطأ التأويلِ، وسَقَمَ التَّعليلِ، وأسكَتَ طَنِينَ الذُباب في خياشيم رؤوسهم بالأضاليل، حتَّى ناموا في مراقدِ الخضُوع، وقاموا وأرجلُهم تَتساقَطُ للوقوع، بأدِلَّةٍ أقطعَ من السيوف، وأجمعَ من السُّجُوف، وأجلَى من فَلَقِ الصَّباح، وأجلبَ من فِلَقِ الرّماحِ:
إذا وَثَبَتْ في وجهِ خَطْبِ تمزَّقَتْ ... على كتفيهِ الدِّرْعُ وانْتَثَر السَّرْدُ