وفرط شجاعته، وسيلان ذهنه، وتعظيمه لحرمات الدِّين، بشرًا من البشر تعتريه حدة في البحث، وغضب وشظف للخصم؛ تزرع له عداوة في النفوس وإلّا لو لاطَفَ خصومه لكان كلمة إجماعٍ؛ فإنَّ كبارهم خاضعون لعلومه معترفون بشفوفه مقرّون بندور خطئه وأنّه بحر لا ساحل له، وكنز لا نظير له، ولكن ينقمون عليه أخلاقًا وأفعالًا وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك.
قال: وكان محافظًا على الصلاة والصوم، معظِّمًا للشرائع ظاهرًا وباطنًا لا يؤتى من سوءِ فهم فإنّ له الذكاء المفرط، ولا من قلة علم فإنَّه بحر زخار، ولا كَانَ متلاعبًا بالدين ولا ينفرد بمسائله بالتشهِّي ولا يطلق لسانه بما اتفق، بل يحتج بالقرآن والحديث والقياس ويبرهن ويناظر أُسوةَ من تقدمه من الأئمة، فله أجر على خطئه، وأجران على إصابته.
إلى أن قال: تمرَّض أيامًا بالقلعة بمرض جد إلى أنْ مات ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة وصلي عليه بجامع دمشق وصار يضرب بكثرة من حضر جنازته المثل، وأقل ما قيل في عددهم أنَّهم خمسون ألفًا.
قال الشهاب ابن فضل الله: لما قدم ابن تَيْمِيَّة على البريد إلى القاهرة في سنة سبع مئة نزل عند عمي شرف الدين، وحض أهل المملكة على الجهاد فأغلظ القول للسلطان والأمراء، ورتَّبوا له في مقرِّ إقامته في كل يوم دينارًا ومخفقة (١) طعام فلم يقبل شيئًا من ذلك، وأرسل له السلطان بقجة قماش فردّها، قال: ثمَّ حضر عنده شيخنا أبو حيّان فقال: ما رأتْ عيناي مثل هذا
(١) كذا هنا، وتقدم في «مسالك الأبصار» و «المقفى»: «دينار ومحفية وبقجة قماش». ولعلها: «مِحَفّة».